Tuesday, March 27, 2012

طاؤوسٌ في الليل

 

2259189385_e8d8efc9fd

     حزن الطاؤوس يوماً ، و هو الذي أمدَ العمر اشتكى من قلّة الزائرين و فساد الذوق عند الناظرين ، و هؤلاء لم يكفوّا عن التطلّع إلى الأشجار بإعجاب ٍ و هزّ الورود ِ و تنشّقها ، ثم مناغاتهم للعصافير ِ و تقليدهم أصواتها ، و القرود ؟ مالذي يفتنهُم بها و يدفعهم للتسمّر أمام أقفاصها و إعلان الإنبهار ِ باللحم ِ الطريّ المشعرّ ؟. هو الطاؤوس الأزرق الأخضر الذهبي الرشيق ، خفيف الوطء شاعريَّ النظرة ِ و التخطّر ، يفرد أجنحته و يمدّ رأسه المعروف بتاجه ِ الفريد ، مَن مثلهُ بين الطيور ؟ ، أو قُلْ بين الحيوانات أجمع ، و لولا أنهُ كذلك يريدُ مَنْ ينظر إليه لقالَ بينهُ و بين نفسه .. لعلّهُ الأجملَ بين المخلوقات كافة ، لكن بقاءَ كل جميل ٍ مرهونٌ بالذينَ ينساقونَ وراء هالته ِ و ملكوته . و هو ، أي الطاؤوس ، لا يزال يعتقد بأنه جميلٌ و أن كل البِرك التي تتشكل بفعل المطر المتساقط في قفصه المكشوف لا تكذب . إلا أنهُ ملّ نفسه و صار يشتهي أحداً يمرُّ به أكثر من ذي قبل ، فيحدّثه عن زُرقة السماء ِ في جناحيه و خضرة السهول على قامته ، و أي قدر ٍ سيكون عليه و أي شأن ، لو أنهُ في قفص قصر ٍ مُنيف أو إيوان ِ رجل ٍ ذي حسب ٍ عريف ..

تمرُّ به الأيام متكاسلة فاقدة ً لونها ، و ريشهُ الذي على جانبيه أضحى محنة ً كورق الشجر الآيل لأن يُكتَ و يُخسر . أما فكرة أن يبقى هنا وسط الأشجر السخيفة و الضواري المتعجرفة و القرود الطائشة و الأزهار المزيفة ، فهو بلا شك خيارٌ مُجحف و حبلٌ طويل يجرُّ الشيخوخة إليه قبل الأوان ، مطوّقاً إليه بعُقد ٍ من الحِكمة و تكبيل ٍ يقضي بأن يرضى و ينسى . بيد أنهُ يُدرك أن قلبه قلب شاب و دمه ، لو أنهُ شُربَ على الريق لشفى أمراضاً كثيرة عند بني البشر . إنه مثل الشمس و القمر لا ثان ٍ لهُ ، و هو لا يذكُر متى استضافَ طاؤوساً معهُ في القفص ، و هل يا تُرى كان أجملَ منه ؟ أقدّرَ منه على الإغراء و التملّك ، ألينَ منه في القفز ِ و التسلّك ؟ . لا ، لن يظلّ حبيس الفرصة و أوقات الزيارة و العيادة في جنينة الحيوانات . سيخطط هروبه بنفسه و يبحث عن السهول و القُرى ، المدن و الشوارع و الجسور ، المنازل و الحُجرات ، الأزقة و الحواري و المحلّات . سيقتحم على الفقراء عُزلتهم و على الأغنياء خلوتهم ، و يصرخ في وجوههم سوء ذوقهم و خواء معرفتهم ، و أنهُ قد آثرَ المجيء إليهم و النزول عندهم كي لا يُضيعوا المزيد من أعمارهم بين الجرذان ِ و القرود .

استقرّ به الترحال في حقل ٍ على مشارف قرية ٍ مملوءة بالرجال ، خلقٌ كثير و عيونٌ كبيرة واسعة . العبادُ هنا يخرجونَ للزراعة و الصيد منذ الفجر حتى يأفلَ النهار و ينسدلَ الليل . بَدتْ الحرية له شيءٌ بارع ، فأن يُحدد الجميل حقهُ في الجمال و حصته من النور و الظلال ، لهُ سرُ العبقرية و الخيال ، و لذا لا حق لأحد ٍ بأن يعترضَ أو يناقش أو يبادرَ بالسؤال .

إن أحداً لا يفهمُ حساسيته و رفاهه ِ و رومانسيته ، فإنهُ حتى لا يحتاج لأن ينطقَ بحرف ٍ واحد أو يفتعلَ أو يتصنّع ، سبحانَ الذي خلقه و سوّاه ، مخلوقٌ منسجمٌ مع نفسه ، قطرةُ الدم ِ في لحمه أصيلةٌ نقيّة لم يخالطها دمٌ آخر مثلما هو الحال عند الحمير ِ و الجحوش . ذكيٌ عارف يكتنهُ ببصيرته مصائر الأمور و حوادث العصور ، محللٌ يُتقن حلّ الشيفرة و الكلمات المتقاطعة ، و لذلك ، فإن شعوراً بالتآمر عليه و حياكة المكائد في حقه لا يلبثُ أن يفتقَ في قلبه جاعلاً إياهُ بين الحين و الآخر متربّصاً متوجّساً و أحياناً أقل منفعلاً متوفّزاً متكّدراً ..

لم يلقَ قي القرية سوى صوت الكلاب الضالّة ، غير أنهُ لم ييأس إلى أن رماهُ الصبية بالحجارة ، غير أنه لم ييأس إلى أن رفعَ عليه أحد الفلاحيين طوريّة ضخمة ، غير أنه لم ييأس إلى أن اشتبكَ مع بعض الحمام البلديّ البشع بالكلام على إحدى الأشجار في مقدمة القرية ، و قد سمعَ من الحمام عبارات ٍ نابية سوقيّة ، و حينها فقط يأسَ و أعلنَ أنهُ بصدد العودة إلى القفص ..

و في الطريق عثرَ على خُمّ للدجاج ، و راودهُ منظرُ الدجاجات الضعيفات . مالذي لديّهُن غير البيض ِ و الرقود ؟ ، و ديكّهن ذلك الأجرب المختال ذو اللون الأزرق الأرضيّ ؟ .

بعثرتهُ النشوة و أسكرته اللحظة ، فإنكَ إذْ تلقاهُ نهاراً يُعرّض ريشهُ على الضياء المُنسكب و ليلاً يقف في واجهة المصباح الكبير الكشّاف ، و الذي يُشعل لأجل أن تشعر الدجاجات بالنهار يتواصل فلا يراودنَ البيض و الإنتاج . و على الضوء أعادَ الطاؤوس اكتشافَ نفسه ، فكم هو مرحٌ و خفيفُ ظلّ ، و كم من الأيام أنفقَ في القفص واهماً أنهُ جميلٌ و متّقِد ؟ و كم من الأيام أنفقَ في صدى الكلاب الضالّة و مرمى أفعال الصبية السائبة ؟ .. آه ، كم سيكون فخوراً بنفسه الآن ن عندما يشاهدهُ الناس و قد تلألأ ريشه و بانَ الحقيقيُّ من الخفيف المُضلل .

قلَّ عدد الصيصان الجديدة ، و اتفقَ أن كان الناس في مجاعة و أحوال مُزرية ٍ ساغبة . قالتْ إحدى الدجاجات أن الرجال أكلوا الصيصان بالريش نيئة ، و أنهم شربوا البيض شُرباً ، و لم يُبقوا إلا على عدد ٍ قليل من الدجاجات قُدِّرَ لها أن تكونَ واحدة ً منهُن لكي تشهد و تحضُرَ ثم تروي إذا ما عاشتْ و صارتْ جَدة .

* * * * *

     لو أن الطاؤوس أدركَ منذ البداية أنه طيرٌ مثله مثل غيره ، و أن الجمال قبسٌ يسكنهُ و يسرَحهُ ، و أن ذلك كلهُ لا يبرر تعذُّر الجمال بالهيمنة و السلطة مهما بلغَ و ذرا . لو أن الطاؤوس عرِفَ بأن السكاكين ستمتد إليه ِ في النهاية ، لكانَ وفّر عليّ كل هذا الحبرْ .. و وفّرَ عليّ الكتابة .

24\9\2011

 

1 comment: