Tuesday, March 20, 2012

العروس

 

Marc-Chagall-The-Bride-15351

بدا الشتاءُ مُبّكراً هذا العام . هطل المطر بغزارة و سقى الأرض المشاع ، خيوطاً ذات وقع ٍ رتيّب على صدر الصخر المتهدّل على السفح 
الجبليّ المُطلّ على السهول ، يبدأ صوته القادم من المجهول كإطلالة بث المذياع في افتتاح برامجه اليوميّة ، مشوشّاً مشوّهاً لا مُبال ٍ ثم 
ينبرُ الصوتُ الآلي " صباح الخير يا وطن ! " 
ترك الفلاحون منازلهم المصنوعة من الطيّن المشويّ ، سمعوا و هم يدرجون على الطريق الموحل صوت المزاريب تئّن ، ألتفت شيخٌ عجوز
إلى السماء ، و نتأت من بين شفتيّه المتحطبتيّن كلمة " يا رب " . كانوا جموعاً يحملون المعاول و الفؤوس و أكياساً من الخيّش . و للحقيقة
بَدت أذرعهم أقصر مما هي عليه و لون الجلد ممتقعاً أقرب للأرجواني و شفاهاً مقطوعة مزمومّة تنفكّ عن أسنان ٍ تصطّك من شدّة البرد . 
صاح أحدهم متألمّاً " آه من برد يقصّ المسمار ! " . سأل صبي أبيه : " كيف يقصّ البرد ، الذي لا نراه ، المسمار ؟! " 
لم يردّ الوالد بقي صامتاً كالآخرين .
الراوي الأول :
عجوز تجاوز السبعيّن عاماً على الأرجح ذو لحيّة كالقطن و رأس ٍ أصلع ، كثيرُ الإبتسام ، لكن أحداً لم يشأ إبتسامته قطّ للروائح العفنة 
التي تفوّح من فمه ذو الأسنان البنيّة و البصّاق الأصفر .
جلس طاويّاً ساقيه إلى الخلف و قال بصوت جهوري :
"
سقا الله على تلك الأيّام ، كنّا نحصد كذا موسم في السنة ، أما الآن .. " و أطلق تنهيدة عميّقة ، أحسّ الجالسون على إثرها أن الرجل يودّع 
الحياة ، لكن العجوز استدرك حديثه بأن العيب - كل العيب - يقع على الفلاحين الشباب .
توقف المطر فجأة ً ، و أعلن بعض الفلاحين أنهم سيجمعون الحطب لغليّ الشاي ..
كانت الحلقة لا تزال قائمة ، و قد اقتنعت الأكثريّة أنه الجو المناسب للثرثرة ، أعياهم التعب و صوت زلمة الآغا يُرجَعُ قريباً بعيداً 
فوق جواده ناهراً إياهم و مهدداً بخربان بيوتهم فيما لو ضاع موسم السنة ..
سأل الصبيّ : لماذا سُميّت قريتنا بالعروس ؟
وجمَتْ الوجوه و انتقلت العدسّات إلى الجسد المتصلّب ، تململَ العجوز في جلسته ثم انتفضَ واقفاً على حيله مادّاً كفّه المعرورقة إلى 
جيب معطفه الداخليّ ، و لم يُسمع بعد ذلك إلا طقطقة القدّاحة و ومضة صغيرة بدأت بالبهوت شيئاً فشيئاً ، عندما عقدتْ السماء وشاحها
الأسود على قبّتها .
الراوي الثاني :

شاب في منتصف العقد الثالث من عمره ، قيل أنه سُجن أكثر من مرة لسلوكه المُشيّن ، لكن أحداً من أهل القرية لم يجد منه سوى 
كلاماً عن مغامراته و نزواته في المواخير و الموانىء ، إذ رحل إليها و هو مراهق ، كان بارعاً في رصد التنبؤات ، و لقد قال 
أيضاً أنها " لغة السماء و هو يفهمها لأنه ركب البحر " ، و عندما أراد البعض السؤال عن وجه الشبه بين البحر و القرية ، كان 
يفتح قصة جديدة عن فتاة عابرة هنا أو هناك ..
أمسكَ بأذن كأس الشاي الساخنة و قرّبها من فمه ثم سأل فجأة ً : هل تريدون معرفة السبب الحقيقي ؟ .
همهمات في جانب و صمت و ترقّب في الجانب الآخر ..
"
لقد كانت أيضاً نزوة من نزواتي ! ، فتاة من الغجر تاهت عن أهلها و لم أتمالك أعصابي .. كانت جميلة جداً مثل فلقة القمر ، فأنتم تعلمون 
أنني عملتُ في السهول حارساً ليليّاً لدى الآغا .. "
قام البعض قبل أن يُنهي الأخير كلامه ، أما البعض الآخر فقد بقيت عيناه تلمع و هو يلحّ على إتمام القصة بشغف ٍ و مجون ..
الراوي الثالث : 
بهلول القريّة و بركتها ، كان قد ظهر من بعيد بقبعّته الصوفيّة و سرواله المُزركش ، أشاروا إليه بأن يدنو ، و كان مُزاحاً تماماً سؤالهم عن
سبب التسميّة ، و على الفور أجابهم حتى لم يتح لهم فرصة الإنتظار ..
"
آ آ آ .. " ، و قد فُهِمَ فيما بعد و هو يبصق عليهم أثناء الحديث ، أنه منذ سنوات حمل الألعاب و الدُمى إلى أطفال القرية الفقراء كي يسعدوا
بالعيد ، و ذات مرة اكتشف أنه أضاع دُميّة من نوع " عروس " أثناء تجواله ، و لم يتسنّى له معرفة ذلك إلا و هو مستسلم تماماً لدمعة طفرت 
من عينيّ الفتاة الصغيرة الخرساء ، دمعة اعتصر لها قلبه و لكنه لم يستطع الإيفاء بوعده إلا السنة التالية و لمّا عاد كانت القريّة بإسمها الحالي 
"
العروس " .
أشرأبَ رأس العجوز من فوق الأكتف ، و لم ينتبه إليه أحد للوهلة الأولى ، فقال موجّهاً كلامه للبهلول : " أخرس ! .. الجميع يعرف أن اسم
القرية كان العروس قبل أن يأتي أمثالك إليها ، و لمّا بدا في العيون إلحاحاً صارماً كي يبوح العجوز بما لديه ، تغيّرت ملامحه للبؤس و قال :
"
كانت حفيدتي الرضيعة ! ، لم أكن أعيش هنا ، و قد أتى زوج ابنتي - المغضوب - إلى القرية قبلي منذ سنوات ٍ بعيدة ، و أذكرُ أيضاً 
المجاعة ، نَشفت الأثداء كما الأرض البور ، و لم يكن هنالك بُدّاً إلا التخلي عن ... "

الراوي الرابع :

وصل الخبر إلى ساراي الآغا ، و لا يدري أحدٌ كيف وصل الخبر إلى الأروقة الداخلية للقصر . فبينما يهمّ الفلاحون - في أحد الأيام التالية - 
الإنصراف بعد غروب الشمس المُضببة ، نزل رجل سميّن حول عينيّه تجاعيد حلقيّة ، لم يكن كبيراً في السِن تماماً ، لكن كثيراً من الهُتاف و
التصفيق و الأكفّ المرفوعة للسماء أهيّلت عليه ، تراقص شاربيه و أخذ نفساً عميقاً ثم خاطب الفلاحيّن و هو متكىء على فخذ سيّارته الأيسر :
من سأل عن العروس ؟ ، أقصد سبب تسمية قريتنا المجيدة بهذا الإسم ؟ .. أودّ أن أطمنئكم أنه لا داعي لنشوب خلافات أو مشاجرات بعد اليوم
،أريدُ منكم فقط التركيّز في عملكم ، فالسبب بسيط جداً و هو أنني عند صَرفتْ لي الحكومة المركزيّة الإقطاع ، و كنتُ لا أزال شاباً و ضرب بيده
على فخذ السيارة بدلال قائلاً بنشوة : " لم تكن هكذا على كل حال .. لقد كانت يومئذ ٍ عروساً بِكراً " .
جاءت أخبار الحرب مُرعدة مؤلمة ، و سار في القرية كما القُرى الأخرى تيّار رعشة ٍ قَلِق ، فبدأت البيوت تُداهم ، و الدرك ينتشر في كل مكان . 
تكسّر سكون القرية على أعتاب البنادق و سالت الدماء و دموع النساء معاً .
رحل العجوز إلى دار الحقّ ، و لا يعرف أحد شيئاً بالضبط عن الشاب صاحب الملذّات ، قالوا أنه اختفى ، و قال آخرون أنه عاد إلى البحر 
لكن أصحاب الرأي الأول كذبّوا أخبار أصحاب الرأي الثاني .. فأي بحر ٍ و الحرب على الأبواب ؟
لكن أحداً لم يسأل عنه بعد ذلك . 
أما الآغا فقد سافر خارج البلاد بعدما باع كل ما لديه من أرض ٍ و أقنان بالمزاد العلنيّ .. 
لكن الأرض السهليّة الممتشقة بطن الوادي المُكتّف بالأشجار ، كانت لا تزال هناك .

رحل و حلّ الشتاء كثيراً ، و بعد سنوات انتهت الحرب ، و صار راسخاً في النفوس أن الخريف يمثّل كل الفصول دفعة ً واحدة ، حُلّ الإقطاع ، 
رحل الفلاحون إلى المدينة للإنضمام إلى النقابات العُمّالية أو السفر على ظهر السُفن .. لم يبقَ في القرية إلا الصبيّ و قلّة آخرين ، و كانوا 
هم أيضاً يبحثون عن العروس .. لكنهم في النهاية وجدوها و عرفوا من هي ، و حَرِصوا على أن لا يفارقوها وحيدة ً أبداً ! .

No comments:

Post a Comment