مسحَ علي عرقهُ الذي فوقَ خده بفوطة ٍ عادة ً ما يغطّسها بالماء ثم يتناولها من الصحن المعبّأ و يمررها على وجهه و وجنتيه حتى أسفل ذقنه . كان يبان عليه تعبٌ شديد و إرهاق يكاد يصرعهُ مكبّلاً إياهُ على الكرسي ذي المساند الخشبية المتينة ، الذي دُقَّ فيه ِ مساميرٌ كثيرة . أخبرهُ أبوهُ أنه صنعهُ بثمان ليال ٍ و يستحيل أن يجدَ لهُ مثيلاً في السوق أو قلْ في المدينة ِ كلها .
كان علي نجّاراً يقضي جُل وقته بين الخشب و النُشارة و المسامير ، و للخشب رائحة ٌ مميزة ينبهُ لها مثلما تنبهُ ربة المنزل لرائحة البطيخ أو العصفورة لعشّها بين الأشجار . فهذا خشب جوز و آخر بلوط .. زان و أبنوس و غيرها .
أخذهُ أبوهُ مذ كان في السابعة ، سحبهُ من يده و علّمهُ أول الدروس و لا زال علي يذكرهُ جيداً ، درس القياسات بالمسطرة . كم مضى من العمر عن ذلك الدرس الأول ؟ . توفى أبوهُ ، طلب سيجارة حتى أثناء احتضاره ، لشدة ما كان يُدخّن و يعبُّ بصدره من اشتعال ِ اللفافة . عجبَ الطبيب من قدرته على التنفّس ، فعلى حد قوله ، لا يوجد في صدر الأب رئتين صالحتين للدفع بالأكسجين ، فالشعاب الهوائية مسدودة و الرئة تالفة أشبه ما تكون باللحم الأسود الذائب .
أعملَ علي يديه بفك حبال ربطة من الخشب الأبيض و تحسس سطح الطاولة المحاذية فقبضَ على مسّاكة مطرقة و هوى بها برشاقة فوق سنّ المسمار المثبّتْ ثم علا صوتُ طقة .
كان يجلسُ هناك في آخر أيامه ، وراء المكتب المحجوب بستار ٍ عريض من القش ، يُطالع جريدة أو يُراجع بعض الحسابات أو يتمدد مُسترخياً فوق الكرسي آخذاً قيلولة .
علِقَ مسمار دُقَّ بصورة ٍ خاطئة فأرادَ علي أن ينزعهُ . مدّ ذراعهُ نحو الكمّاشة ذي المقبضين الصدئين ..
كان يقبضُ على اللفافة بين أصبعيه الوسطى و السبّابة بقوة و لا يلبث ينتقل بها إلى الصحن الموضوع أمامهُ على المكتب ثم يعودُ بها إلى شفتيه ، ثم ينترها مرة ً جديدة أو يعلّقها في فمه ، مُدخناً بعصبية و انفعال . و بين هذه النقلة و تلك ينتشرُ الدخان سحابة ً طوقاً فطوقْ .
- أبي ، مالذي تودُّ أن يُصارَ بك بحق الله ؟ ، ألا تركتَ الدخان يا أبي ، أرجوك لأجلنا .. لأجل أحفادكَ على الأقل و الذينَ سيرونَ النور قريباً .
- و أنت ألن تُنجِبْ ؟ . في عمرك ، أي حوالي ابن عشرين واحد وعشرين – و حرّكَ ثلاثة أصابع في الهواء دورة ً خاطفة - ، كان لي امرأة حُبلى و كان يدعوني الناس بأبي أسامة ! ..
- أعرف ، و الله أعرف . ثم أنجبتَ سمر و بعدها بقليل مات أسامة .. و انقطع النسل لسنوات حتى ميعاد مولدي و إطلالي على الدنيا .
- و بماذا يُفيدني أن تعرف و حسبْ ؟ ، يعني حضرتك كسرتْ خوفك ؟ ، طلعتْ و ساومتْ التجّار الذين لو قدروا لباعوا رأسي و رأسك مع أول بيعة خشب .
لا أجدكَ إلا أمام الكتاب و عينيك تبصبص .. ماذا تقرأ ؟ مالذي يكتبونهُ في الكتب حتى يجرفكَ سيلها و تندفع في هواها مثل المقروص من خصره .. ها ؟
ثم كوّر كفه و دقّ على خشب المكتب .
- هذا الذي سينفعكَ و يلقمّك خبز . ما من شيء يبقى للرجل إلا عصاته يا عرص .
و بدأتْ قسماتهُ تتميز غيظاً . قامَ عن المكتب و وحيٌ خفي يشي بأن قدميه ِ توجعانه و أنه يجدُ صعوبة في المشي ، لكنه أخفى ذلك .
تحشّرجَ غيظهُ تحت سنه و أربدَ وجهه و اندلقَ في تفاصيل ِ كلام ٍ كثير .
صرفَ أكثر من نصف ساعة و هو يصف طرق الغش التي يسلكها عادة ً التجّار .
- خبرتُها عن عمر طويل و شغل متواصل . هذا الكار يا ابني يكشف لك العالم ، صدقني . فإما تضحك على الناس أو تترك لهم الحبل على الغارب ..
كان هنالك تاجر اسمهُ شوكتْ ، و بيننا نحن التجار كنا ندعوهُ أبو الشوك . كان مثل العقرب لا تعرف متى يغش ! . مرة يبيع بخسارة و مرة يبيع القصدير على أنه ذهب . و جاء اليوم الذي عزمَ أبو خالد أن يزوّج بنته ، و لم يجد الحزين إلا محل أبو شوكت حتى يجهّز أثاث العرس . و لما بعثنا لهُ بواحد يفوقه و يصحيّه .. الزلمة اتهمنا و قال عنا أننا لا نُحب الخير لبعضنا و أننا تجار و خذ قلبي و لا تأخذ قرشي . و تبيّن فيما بعد أن أبو شوكت نزلَ له بالسعر شويّ .. و أكلها !
سرير النوم وقع ، الخزانة ، الطاولة تغيّر لونها ، كراسي الضيوف .. الأثاث كله بدأ يتساقط و قامتْ فضيحة .
و على لسان أبو شوكت ..
قال السرير لشخص واحد فقط مِفرد ، الزلمة أكابري .. عرسان و من أول ليلة يا حرام .. الله لا يوفقوا .. بهدلهم !
مصمصَ شفتيه و سحبَ نَفساً عميقاً من اللفافة ، التي ما برحتْ تتقزم و تتقلص .
- و زمان .. في التاريخ ، حكوا عن شعبك يا ابني .
كان شعب مكافح من يومه . صنعوا السفن بأيديهم .. جابوا الخشب من كل بيت ، من حضن كل حاكورة و حِرج . أغراض الناس صارت مجاذيف و صواري لأجل العراك و صّد العدو ..
زرّ عينيه و هو يُلقى بنظرة ٍ على اللفافة ذات الذيل المُدخّن مسُتنكهاً إياها مُقطّباً حاجبيه ..
كان مسماراً قديماً ، خاف علي أن يخلِّفَ مكانهُ أثراً مشوّهاً لو جذبهُ فجأة ً و مرة واحدة على عجل ، لذا فضّلَ أن تتم العملية بواسطة الكمّاشة الجديدة ذي المقبضين الأكثر متانة و ثباتاً .
قامَ و فتّشَ في علبة اللوازم.
و في تلك اللحظة رأى وجه أنيس الصغير ، قادماً من الشارع بقدميه الحافيتين الوسختين .
دخلَ و هو يلهث ..
- خالو .. ممكن الشبشب ؟
- رد السلام في الأول يا أزعر . منْ الذي فاز ؟
- أوقفوني كالعادة حارساً للمرمى . لكن تسديدات جابر قويّة جداً .. سطحات ! . سألبس الشبشب لأتحمّل صدّ الكرات .
- لكنهُ كبير على مقاس رجلك
- لا أبداً . أمي دائماً تقول رجلاكَ مثل رجلي خالك .
أعطاهُ علي الشبشب و أضحى الآن هو الحافي .
عادّ حاملاً الكمّاشة .. و أمامهُ على الأرض كان من المؤكّد أن تعثرَ على مسامير و فتات زجاج .
دخلَ بتؤدة و ترّبّص ، مشى بحذر يتقمّز الخطوة لكنهُ ..
أحسّ بوخز ٍ في كعب القدم . رفعَ رجلهُ عن الأرض فرأى مسماراً صغيراً أسودَ اللون انغرز بطرف رأسه و لم يغر . سحَبهُ على الفور .
لم تنزل قطرة دم واحدة . فركَ نقطة الإصابة بأصبعه فأحسّ بالألم في أعصابه لكنهُ سرعان ما اعتبر ذلك عارضاً و لا يستحق الإهتمام .
ثم أكملَ عملهُ بصورة ٍ عادية .
ماذا قال الطبيب ؟
البنفسجُ يغزو حقله قدمه .
اللون القاتم يصبغُ الإبهام . قد قصّوا شقفة ً من قعر القدم ..
جذبَ علي الفارة فوق الخشب . كان جواً ربيعياً رائقاً ، و ضجّة الطرقة تتناهى إلى مسمعه واضحة من الخارج . إنهُ يشعر بصحة جيدة . الحمدُ لله .
فتحَ المحل باكراً هذا اليوم . خلّص طلبيتين مُستعجلتين .. شطفَ المحل و كتكتَ أدراج الخزائن من الغبار .
كانت الحيوية تموجَ في قسماته و الإنشراح يسرّح أنفاسه .
- جئتُ لأسلّم عليك .. وجهك و لا القمر !
- ابن حلال .. القهوة على النار .
تباوسَ هو و إبراهيم .
- يا زلمة .. رحتْ و قلتْ عدوّا لي .
- أنت عارف .. مشاغل الحياة .
- العمر يخلص و مشاغله لن تنتهي . قل أن لك صاحب اسمه إبراهيم . لا أنا فعلاً عتبان ..
سُمِع طشيش القهوة في الداخل ، فضحكَ إبراهيم .
- حتى القهوة شاهدة معي .
جلسا بعد ذلك يتجاذبان أطراف الحديث .
و من فرجة الباب شاهدَ أخته تطلب إليه أن يدنو منها .
- السلام عليكم .
- و عليكم السلام . ردّ إبراهيم .
- عن إذنك يا صاحبي ..
- إذنك معك .
و حين اقتربَ منها قالتْ بصوت ٍ خفيض .
- الغداء جاهز .
- اسكبي لنا صحنين إذن .
- رح ابعث لك بأنيس ..
- بسرعة . وقعتُ من جوعي ..
عند العصر خفّتْ الحركة و خمد الشارع .
مرّ بعينيه بسرعة فوق عناوين الجريدة . أركزَ ظهرهُ على المقعد و أمسكَ بأذن كأس الشاي يهمّ برشفة .
و في نظرة ٍ عفوية ، رفع رأسهُ قليلاً فألفاهما واقفتان أمام باب المحل تتكلمان و تشير الشابة بأصبعها .
كانتا امرأة كبيرة في السن و شابة عرف فيما بعد أنها ابنتها .
- مرحباً . يعطيك العافية .
- أهلاً . أي خدمة ؟
- ماما تريد تفصيل طاولة سُفرة .
- كم حجمها ؟
و هنا تدخلتْ الأم .
- يعني تقريباً لست أشخاص .
- آه .. و نوع الخشب ؟ .
و انشغلَ في الحديث عن التفاصيل مع الأم . بينما كان يراقبها من طرف ٍ خفيّ ..
- أنا عرفت أبوك الله يرحمه .
- أبي ؟
- كنا ساكنين في نفس الحارة .
كان يبيع كرارات خشب . خيوط حياكة و دَرز ..
- صُنعكْ ؟ .
شاهدها ترفعُ سفينة الزينة بيدها ، و التي صنعها من أعواد الثقاب .
- بَسْ يا بنت عيب . ارجعي الغرض إلى مكانه يا براء ..
زجرتها أمها . و همس في نفسه ..
براء . يا لهُ من اسم ٍ جميل ..
الطبيب يجيء يُطمئنُ الحاضرين .
- لا أظنُّ الداء سيصعدُ إلى الفخذ . قطعنا الساقين ، قد تكون فرصة النجاح الآن أوفر ..
يقرأ ..
" زهرةُ اللوز ِ أغصانها في المدى مفروشة
مُغطاة بشال ٍ أبيض ٍ كتاج العروسة
كلمات الغنج في بتلات ِ أوراقها منبوسة
في غدو الرياح ِ تقولُ الأرضُ مُصطبرة ً ،
أنا راضية ٌ يا رياح ُ بقدري ،
فلتبقى أظفارُ اللوز ِ في لحمي مغروزة .."
- موفقة يا علي . المهم هل فاتحتها للمخلوقة ؟ وعدتها بشيء ؟
- أحبها يا إبراهيم ، أقسمُ بالله أني أحبها ..
- ألم تخبرني أن أمها كانت تعرف والدك ؟ .
- زبونة قديمة ..
و إلى جانبهما في المقهى جلسَ اثنان يلعبان الدومينو و يتبادلان السِباب .
- لا أخفيك . اللحم تسمم ، الميكروب تسرّب إلى الدم ..
عندك غرغرينا .
- غرغرينا ! .
ركضا قبلها بليلة كالمجانين في الحديقة العامة .. رشقها بالماء المتجمّع في حوض النافورة .
" كالعصفور قلبه يكادُ يطير ، يرفّ يخفّ ، يسيرُ أنّى سارتْ و يضخُّ دمهُ أبدا . لأجلها يمنحُ نفسهُ للسحاب ينتثرُ مع حبوب ِ الأرض حتى تقطفهُ مع الحصّادين . فما عادَ يكتمُ حبّه أو يسرّهُ كي لا يُفتضح ، لو شاءتْ لأغرقها بالدموع و وشّمها بالقُبل .. "
عدا خلفها لأنها الأسرع . ناداها لكنها كانت في تلك اللحظة طفلة تُحب اللعب و ما من شيء يحدّ من ولعها أو يملكُ عليها طبعها .
رجلهُ اليُمنى ثَقُلتْ .
- براء تعبتْ ، سأوصلك إلى البيت .
- لا أشعر بالتعب .
- عنيدة . بَسْ على فكرة ..
- مم .. احكي ؟ سامعتك ..
- أحبك .
و أحمرّ خدّاها و شفّتْ ابتسامتها عن سن ٍ صغير .
يقرأ ..
" و في ثغرك ِ سنٌ صغيرٌ قرب الشفّة ِ
أشتهي لو أن أصبعي يلامسهُ و يُصليه
فتحسبينَ شرودي فيك ِ تحرّشاً .
تعضيّنَ على أصبعي فتدميه ِ
آه ما ألذَ طعم دمي و لُعابك فيه ِ
آه يا لأصبعي مِنْ يُنسيه ؟
أن مطر السماء الأولى يُنديه ِ .
و افرضي يا ضاحكة السن ِ تحسّباً ،
ثماراً في تُراب أصبعي تبرعمتْ ،
إذْ ماءَ شفتيك ِ غذّاها فأينعتْ و تبلسمتْ .
في عُقلة أصبعي الثمرُ ، فمن الآن يجنيه ِ؟ ."
- لو بدّلتَ غذّاها بنمّاها .. يخالُ لي أنه الشيء الأنسب .
خذْ لك نَفس .
و مدّ لهُ إبراهيم بنربيش النركيلة .
- اعفيني ..
حينما يفتّح عينيه يرى وجوهاً قلقة خائفة .
ماذا قال الطبيب ؟
- تماسك . العملية استأصلتْ الداء .. شبه نجحت .
" أسّاقطُ مثل أوراق الخريف
و لا أجدُ غير عينيك ترشداني الطريق
أنّى لك ِ أن ترفضين ..
دونهما أهيمُ كالغريق
في ظُلمات ِ الشجرْ
قد توّهتني الريحُ إذْ ضربتْ جبين ِ
و صرتُ بين صرصر ٍ و حفيف "
اقتربتْ من السرير المُثقل باللحم المتبقي القليل . وقفتْ حيال عينيه ِ حُبلى ، كانت براء ..
- أين زوجك ؟ .. أين زياد ؟
- في الخارج . لا تهتم يا علي .. قدمت كي اطمئّن على صحتك .
- أي صحة يا براء ؟ .. إنني أموت .
- بعيد الشرّ عنك .
- الدكتور قال لا يجوز لك الكلام طويلاً يا علي ، إنك مريض حالتك خطرة ..
اعترضتْ أختهُ مُرتجفة .
- خشبْ . مثل بعضه .. خشبْ . دُق فيها مسامير مثلما أردتْ ستظلّ خشب .
كانوا يبحثونَ عن أغراضه الأخيرة القليلة في المحل .
ميّزوا تابوتاً خشبياً ، كان مركوناً في الغُرفة الداخلية ، و في جوفه ..
شبشباً من قصب ، سفينة ، و صحن سجائر ..
ليلة 13 \ مارس \ 2012
No comments:
Post a Comment