Wednesday, March 28, 2012

نعي ساعي بريد

 

VanGogh, Postman Joseph Roulin 1888

 

ركلَ الوسادة بعيداً عنه ، ثم بصق على كفّه و مسح فوق جفنه الذي لا زال يُثقله النعاس . لا يذكر تماماً الساعة التي نام فيها و لمّا أراد 
أن يعرف الوقت أطلّ من خلف زجاج النافذة ، فوجدَ الشمس و القمر يعتمران قَرعة السماء مُمزِجان الغروب بالشروق . همّ من جديد أن 
يبصق على كفه و يمسح لكنه تذكّر أنه يمكن له الإغتسال بالماء كخيار أفضل . دخل الحمّام بنفاد صبر رافعاً عُنقَ الصنبور للأعلى فتدفّقَ
الماء طاهراً عَذباً ، مدّ يديّه سوى أن لون الماء انقلبَ فجأة ً ، ما زال أن تحوّل كليّاً إلى دماء . صعقه المنظر ، فلم يتخيّل أبداً أنه منذ 
سنوات مديدة مع زوجته لم يكن يأكل و يشرب إلا الدماء ! . لم يلبث أن تحولّت دهشته المصدوعة إلى حَنق ، بدأ كشرنقة صغيرة أسفل
اللسان حتى أعلى الحلق ثم عَدِل عن قراره بالإنفجار بالبكاء لأنه و حَسبْ منطقه ، لم يكن وقت ما بعد الإستيقاظ وقتاً يصلُح لذرف الدموع .
وجد نفسه يخرج من الحمّام إلى المطبخ .. كان الرواق أقصر مما اعتاد عليه و لم يجد زوجته في المطبخ .
ظنّ أنها خرجت للتسوّق ، لكن هذا أيضاً لم يكن مسوّغاً لكي يتراجع عن تصميمه الأخير بأن يختفي خلف الباب مُتحيّناً الفرصة ثم 
يطعنها طعنة واحدة في صدرها .
كيف يخرج من الصنبور الدم فيما لم يكن في البيت إنسانٌ فاجر ؟! ، أما هو فكل ما يعلمه أنه لم يقصّر في حق طفلته الوحيدة قطّ ، ذلك 
أن كل ما حدث .. حدث دون أي قصد ٍ منه ، مع أنه يذكر جيّداً أن الكلب الصغير في أسفل الدرج كان مُسالماً ، و أعتقد هو في تلك اللحظة
، من غير خِلاف ، حول ترك طفلته الصغيرة من خوض اللعب و الكلب . كانت الصغيرة تَدرُجُ على السّلم بخطوات متعثرة و بات يبدو أنها
سقطت ، أراد أن يساعدها على النهوض ، و هو كلمّا استرجع الأمر مع زوجته و الذهول يصفعه يُمنة ً و يسرى ، يكادُ يُقسم أنه أراد أن 
يُنهضها لولا أن الكلب كان قد قفز و انقضّ عليها و أخفاها في فمه ، هكذا استطاع تبرير الأمر لزوجته عندما سألته عن الطفلة ، و لمّا كفّت
زوجته عن البكاء كان قد فَهِمَ أن الصغيرة ماتت في فمّ الكلب ! .
دَخلَ مجدداً إلى المطبخ ، سحب درج السكاكين و لم يجد شيئاً . " إذاً كيف كنّا نأكل كل هذه السنوات من غير سكاكين ؟! .. لقد كانت مجرد 
إمرأة خائنة و صار لها أن تموت .
خطر له أنه فيما لم يجد زوجته في الشارع فلسوف يقتل اي شخص ٍ آخر ، ما دام أنه من غير الصعب أن تصادِفَ إنساناً خائناً أثناء عُبورك 
الطريق ! .
ارتدي معِطفه مُفرغاً ما في جيوبه من أوراق رسائل على ملاءة السرير ، و لم يتوقف تساقطها على الأرض إلا عندما وجد نفسه في الشارع.
لم يكن القمر عندئذ ٍ في السماء ، كانت فقط الشمس ، و إبطّ السماء الأزرق يمتدّ مع شعراته البيّض حول الشعلة المدوّرة الصفراء التي 
انطلقت تُمخر تحت سفينة من العَرق . كم أسعده المنظر لكنه فَطِنَ إلى أن مدّة وقوفه أمام الشارع المزدحّم قد طالت كثيراً ، نظرَ إلى معصمه
فلم يجد ساعة و أزعجه إفساح السيّارات لشجرة كانت تمرّ إلى الرصيف المُقابل و لم تُفسحْ له إنما تدفّقت من جديد كالدماء ..
عند المنعطف الأخير لوجْهَتِه عثر على عمود إنارة ، أسندَ ظهره عليه هنيّهات ٍ ليلتقطَ أنفاسه ، التي انطلقت بدورها كتنهيدات ٍ مُتحسّرة
علام شاهده من حمام ٍ يبني أعشاشه على خطوط الضغط العالي . قرر بينها و بين نفسه أن الوقت قد حان لكي يستقيّل من عمله كساعي 
بريد ، يبدأ عمله ما بعد صلاة العِشاء و يبقى طيلة النهار يستغرِب عن سبب عدم إحتواء صندوق الرسائل على أية واحدة ، تاركاً المجال
للحمام ليُجدد مجده كحمام ٍ زاجل و لو قليلاً .
ألتقطَ أنفاسه بصعوبة شديدة فوق البلاطة الأخيرة المجاورة لباب منزل الوالدين . كان يعتزّ تماماً بذاكرته القويّة التي توقّدتْ اليوم خصوصاً
بمعرفة أنه أولاً ساعي بريد و ثانياً اكتشافه للموقع الصحيح لمنزل والديه . كان الباب مفتوحاً كالعادة و أمه ترقد خلفه تصليّ على ركبتيّها 
، شدّ من أعصابه و بدأ يتذمّر من سهرة البارحة و سأل عن أبيه ، أشارت الأم أن الأب قد ذهب ليسلّم عكازتيه إلى المشفى صباحاً ثم توجه
مباشرة ً إلى المطار مُسافِراً كي يبحث عن عمل .
آلمه منظر العجوز كثيراً ، أرادَ تقبيلها ، فنزل على كوعيه كالكلب ، إلا أن العجوز دفعته بقوة في صدره و ندّت عنها كلمات غاضبة ..
-
لم يرد أبوك أن يكون مشلولاً بقيّة عمره فسافر ، لكنه لا يُريد أن يعود و يراك أعزباً و قد تجاوزتَ التسعين من عُمرك ! 
سأل نفسه : " ماذا يكون عنوان صندوق بريد أبيه يا تُرى ؟ "
عندما رَجِعَ كانت الشمس قد امّحت ، و وقف القمرُ مرتديّاً زي عناصر الشرطة و دويّ الصافرة ينطلق عاليّاً . أضاع وقتاً طويلاً في البحث
عن مصدر البكاء في حجرة نومه . كانت الزوجة لا تزال تفقِدُ الكثير من وزنها بين الملابس و الحاجيّات على رفّ الخزانة . تمدد على 
السرير ثم شعرَ بدنو أجله ، فلقد صُدِمَ اليوم مرة ً أخرى عندما أخبرته أمه أنه تجاوز التسعيّن عاماً . 
قُبيل منتصف الليل انتفضَ في الفراش كثيراً على أنه فقد روحه أخيراً ..
أطلّ الصباح ، ظهرت الشمس كأي يوم ٍ آخر ، زقزقت العصافير فوق أكفّ الجنائن ، و خرج الناس من منازلهم صامتين كالحجارة . لم
يكن أحدٌ في منزله حينئذ ٍ إلا هو ، وقف على رأس حفرة حاملاً رخامة ضخمة باردة بين ذراعيه ، ببراعة و حَذر ، نُقِشَ عليها اسمه و 
تاريخ الولادة ، على أنه لم يفته إرسال الكثير من الرسائل ، طمعاً ، من أن ينعيّه أحدهم و لو لمرة واحدة على الأقل ! .

No comments:

Post a Comment