Thursday, March 1, 2012

العصفورة






يا تُرى أين تذهب العصافير ؟ حينما تكتسي الدنيا بالحلّة البيضاء و تظهرُ طبقاتُ الثلج من حولنا ، على العشب ِ 
فوق الأشجار ِ على القرميد ِ و لوحات ِ الإعلان ِ و سطوح السيّارات .
تصيرُ الدنيا ممرضة َ مشفى لا يُميّزُ وجهها من كفيها ، جيوبها منفوخة ٌ بأكوام ِ القطن ِ ولفائف ِ الشاش . صدرها واسعٌ مملوءٌ بالحب و الحنان . أين تنصرفُ العصافير و تقررُ بلغتها المُزقزقة العذبة أن تختفي ، و لا تعبث بستار الأشجار الهشّ الشفاف ، المثقلةُ أغصانها بالنُثار الأبيض كالسكّر .
هذا بالضبط ما كان يُفكِّرُ به رضوان ، طالبُ الإبتدائية ، شاقاً طريقه حاملاً معهُ سطلاً و مجرفة ، و حول عنقه لفحة حمراء غُزلتْ خيوطها بيد أمه .
و لما كرّ عائداً من اللهو و اللعب مع الرفاق ، و قد أسلمهُ التعب إلى شعور ٍ بالكلل و المرض . سُرعان ما أحسّ بأعراضه ِ من كحة ٍ ضربتْ صدره و مرارة في حلقه . جلسَ على درجات ٍ مدخل البيتْ بعد أن عثرَ على فُسحة ضيقة لم يطلها البلل ، و رفع طرف البِنطال فتكشّفتْ له الحقيقة التي آثر تناسيها طيلة الوقت المنصرف .
القدمُ مُصابة و الجُرح متوّرِم و الجوارب مصبوغة ٌ بالدم . كان الألم قد أمضّهُ و جعلَ يمشي و هو يوكِزُ على ساقه ِ الثانية .
خلَّ انحسار البِنطال إلى انبساطه السابق ، و رفع جبهتهُ و قد تندّتْ الدموع أسفل عينيه و شملتْ مسحة ٌ من الخوف صحنَ وجهه ِ .
ليسَ الألم الذي يدقُ عظم القدم و لا الجرح النازف ، إنما عتابُ سميرة لهُ .
الأختُ الكبيرة العزيزة على قلبه و لا يرقاها في المكانة ِ من نفسه غير أمه . أما أبوه فقد هجرَ المنزل منذ زمن ٍ بعيد .. أيامَ كان بلا شنب ، أما الآن فلهُ لحية ً طويلة سوداء كثّة يبانها رضوان كلما حانتْ مناسبة و جاء يسلِّم عليه .
في المساء .. أخلدَ رضوان للنوم . لبسَ منامته و انصرفَ إلى الخارج بعينيه عبر النافذة ، شاهدَ الثلج يهطلُ من السماء ، و هو في ذلك مُسنِداً ذراعيه إلى حافة النافذة و نظراتُه شاردة .. و إذْ بسميرة تدخل ..
-        أُمنا مريضة . أجرعتها الدواء لتوي . هيّا تمدد و نمْ .. إن لدينا أعمالاً كثيرة نقومُ بها غداً .
-        سأذهبُ لأراها ..
و قفزَ فأمسكتْ به من ذِراعه حائلة ً إياهُ دون الباب .
-        لا تذهبْ . أخبرتُها بأنك نائم و أنكَ دعوتَ لها بالشفاء و الصحة .
و انتبهتْ إليه ..
خافضاً رأسهُ مُعتمِداً على ساق ٍ واحدة مُدلدِلاً الأخرى . و لما مسّتْ كفها ذقنه و قد سوّتْ بعض الشعراتْ المشعثات ِعلى جانب الوجه جاذبة ً إياهُ نحوها ، ألفتهُ متغضناً متوتراً إثر صكّه ِ لأسنانه ، قابضاً بين فكيه على آهة ألم . ظنتْ بادىء الأمر أن شدها إياه من ذراعه ، سبّبَ له شعوراً بالأسى فنكثَ لهُ إحساساً دفيناً في العاطفة ، و لم تدر ِ إلا حينما استقامَ واقفاً و حزرتْ أن قدمه توجعهُ .
-        ها ! مُصاب في قدمك .. لا تُنكِر لا لا !
-        في قدمي ؟ كيف ؟ ..
مَنْ أخبرك ِ .
-        العصفورة .
-        متى ؟
-        عندما كنتَ تكتب فروضكَ المدرسية و كنتُ أنا أغسلُ الصحون .
-        و كيف شكلها ؟
-        مم .. مثل باقي العصافير .
-        و لونُها ؟
-        لا لون لها .. أقصد رمادية بعض الشيء . نعم رمادية .
-        و كيف تأتي عادة ً ؟
-        أكونُ أنا هكذا واقفة ً و ظهري إلى النافذة . و فجأة ً أسمعُ صوتَ طرق ٍ خفيض و ما أن ألتفتْ حتى أرى العصفور تنقرُ الزجاج ، ثم أفتح النافذة فتخبرني بكل شيء .
-        و كيف ظهرَ لك ِ أنها عصفورة لا عصفور ؟
-        نحن الإناث نعرف بعضنا البعض حتى لو اختلفتْ المخلوقات .
-        طيب .. ما لغتها ؟ إني أعرف لغة ً خاصة للعصافير لا نفهمها نحن ..
-        و ما أدراكَ أنت ؟ لعلني أفهمها و أتقنها أيضاً ..
-        اسمع ..
كو كو .. زو زا .. كوك .. زوزو .
-        ما أحلى هذه اللغة ! . كم أكرهُ نباح الكلاب .. و القطط أيضاً مُضجِرة .
و ضمّته . قبّلتهُ أسفلَ أذنه و همستْ .. " تصبح على خير يا حبيبي الصغير ."
و ما لبثَ أن سارَ الدفءُ في جسده حتى أن قدمهُ طابتْ و صارتْ خفيفة .

بعد أيام ذابَ الثلج و التهى الناس بشؤونهم من جديد ، فعجّتْ الشوارع بالمارة و كلامهم لا يني مشوباً بالثلج ، رغمَ أن هذا الأخير اختفى كشيء ٍ محسوس و لكنهُ ظلّ عالقاً في أحاديث ِ الناس و تخاطرهم .
و احتلَّ كل تلميذ ٍ مقعدهُ من الفصل و أرخى سمعهُ و شدّ انتباههُ للمعلم و هو يشرح الدروس . بالطبع إلا بعض الطلبة الذينَ لا زالوا يمنونَ أنفسهم بسقوط الثلج مرة ً أُخرى و ليستمر هذه المرة إلى الأبد فلا يعودون ثمتئذ ٍ إلى المدرسة ..

دلفَ رضوان البيت و حقيبتُه على ظهره . ثم أخذَ يجري و الجذل و الحبور يهدهدانه . كانت أمهُ في المطبخ ترتقي سلماً عالياً ممسكة ً شريطة تُستخدم للمسح ِ و التنظيف ، و إذا بها تذكر اسمه للمرة الأخيرة و تسقط .. سمع دويّ صرير السلم و قد هوى دون أمه التي وقعتْ على رأسها و فار دمها فوق البلاط .
صرخَ .. صرخ . ركض نحوها و لم يعرف ماذا يفعل . تسمّر للحظة ثم تذكّر سميرة .. لا بّد و أنها عادتْ من الخارج . صفقَ باب  الغرفة و هو لا يكاد يُبصِرُ شيئاً أمامه . اللهاث الشديد يخنقه و الصور مضببة في طيف الدموع . العجيب أن سميرة كانت هناك كأن شيئاً لم يكن ، فلم تسمع ..
قالتْ :
-        ماذا حدثْ ؟
-        ماما يا سميرة .. ماما وقعتْ عن السلم .
و دفعتهُ سميرة . لأول مرة في حياته يشعر بأنها عنيفة و قاسية ، أزاحتهُ بقوة حتى أن رأسهُ ارتطم بخشب الخزانة و انطلقتْ تعدو كالمجنونة ..

بكيا معاً تلك الليلة . فاضتْ المآقي بالدموع و اخضلّ الوجهان اليتيمان .
أخبرهما ماجد أنه سيتكفل بالتفاصيل كاملة ، و أن الجثة ستظل ليلة في الثلاجة ثم تُدفن في صباح اليوم التالي ..
و كانتْ آخر صبّات التُراب فوق قبرها ، و ناسٌ قلائل اجتمعوا يتمتمونَ لها بالرحمة و يمسحونَ الوجوه .
غارتْ في الحفرة كأن الزمنَ نسيها ، و لم تمد لها يدٌ واحدة كي تنقذها من الهوة السرمديّة . عاشتْ الحياة الطويلة و لحظات الموت قصار .. فأي مُفارقة ٍ عجيبة ٍ تلك ؟ و أينَ اختفتْ كحّتها التي اعتاد سماعها كلما دنا من حجرتها . فلتكح و لتمرض ، لأن المرض من سِمة الأحياء .. و يا ليتها تكون حية ، فتنهضُ من رقدتها و تكذِّب كل الناس الذينَ قالوا أنها رحلتْ و لن تعودَ أبداً أبداً .

تحت ظليلة خيمة العزاء اصطفّت الكراسي و اختلف الناسُ إليها خارجينَ داخلين .
و في فضاء الخيمة الذي أُنير بالمصابيح و فُرِشَ أرضها بالسجّاد ، تعرّفَ على كثير ٍ من الوجوه ..
المألوفة لديه و أُخرى يراها لأول ِ مرة ٍ في حياته .
كانت تلك المرأة و قبل أن تصير أمه ، أو حبيبتهُ التي أبصرَ العالم لأول مرة فرآها و عرفَ العالم من خلالها و لأجلها .. امرأة ذات تقدير ٍ كبير ، لا يُصدّق العدد الهائل من الناس الذين تعرفهم رجالاً أو نساءاً .. كِباراً أو صِغاراً .
فكم من مرة ٍ خابَ مسعاها لتبضع حاجياتْ البيت لأنها لم تجد بُداً من التوقف كل مرةٍ في السوق  للسلام أو الجلوس مع مضيفتها أو مُضيفها فيتبادلان الحديث و الأخبار . و كم من مرة ٍ ازدحمَ فيه ِ بيتهم بالزائرين .. و كم مرة اصطحبتهُ معها إلى الأصدقاء و الأقارب .
و في البعيد و قد سما نظره و جاب وجوه الجالسين . اسندَ أبوهُ رجلهُ مُشمرة البِنطال إلى كتلة ٍ حجرية مُحاذية ، عاقصاً ظهرهُ رافعاً قدمهُ بلا مبالاة مهزهِزاً إياها .
كأنهُ ليسَ بأب . كان أبوهُ يضحك و بعضٌ مِن الناظرة الذين حولهُ يحدجونه ُ بسخط و استياء .
سمعهُ يصرخ بصورة ٍ أقرب إلى الهبل و الخبل ، ثم بحركات ٍ مُفككة مبتذلة :
-        آه يا أخي ! .. ماذا أقولُ لك ؟ الحياة ملعونة .. و الذي لا حظّ لهُ فيها لا يشقى و لا يتعبْ .

و بعد مُضي وقت قصير سمعهُ ..
-        مرة – و أغرق في الضحك – كنتُ لا أجدُ مكاناً أنامُ فيه .. لا تصدقني ؟ بلاش بلاش ! .
بقيتُ سهراناً عند جماعة صحابي .. و إذا بهم يقولونَ لي .. هكذا بصراحة و لا لف و لا دوران .. أبو رضوان إذا سمحتْ .. خلصتْ السهرة . بلا مطرود !
أولاد الكلب – و هنا همس – طردوني . و قلتُ لنفسي .. يا ولد ما أحلى الحياة بلا مسؤوليات و لا مشاغل ..
ثم سمعهُ يقول ..
-        لما أيقظني الزبّال قال لي .. الله ستر . كانوا يريدون أن يدبوّني في سيارة النفايات . و وقتها بس استوعبت أين قضيت ليلتي ! .. في حاوية الزبالة .. هه هه هااا .

قالتْ لهُ سميرة أنهُ قدمَ و قبّلها قبلة سريعة ، و حينما دسّ لها ورقة نقدية في راحتها رفضتها بأدب .
ثم خرج مثلهُ مثل واحد ٍ من المعزيّن.
في المساء .. أراحَ رأسه قرب رأسها .. غنّتْ لهُ قليلاً و مسّدتْ له شعره .
و بعد قليل أرختْ ذراعها المسدول منسحبة ً عنه ، فأيقنَ أنها تريدُ النهوض .
فتكلّم في ظلام الغُرفة ..
و راحتْ هي تقصدُ باب الغرفة بخطى تلقطها من الأرض ظنّاً منها أنه نائم .
-        سميرة .. ماما لم تمتْ .
-        لم تنم يا رضوان .
-        لم تمتْ يا سميرة ..
أنا متأكد .
العصفورة اليوم طرقتْ الزجاج و قالتْ لي أنها لم تمت .. لكنها مريضة .
ثم نمى إليه هسيسٌ منها ثم بكاء صريح . كانت تبكي و ظهرها مُرخى على الجِدار ..
-        ألم تكن العصفورة صادقة دائماً معنا ؟

ربما ..
1 – مارس - 2012







No comments:

Post a Comment