إلى ( أ ) .. زهرة اللوز .
1- نشيدُ الأرض و الجَد .
بينهما صوتٌ تحت سطح التراب ِ المشقق .
يشعرُ جدي بالعطش عندما يفرغُ من كلامها .
يذهبُ إلى البئر ِ و يسحب كوزاً لها ..
لفرط ِ عشقه ِ ، و العشق كالخطأ ، سها عن سماء ٍ
ضرعها ممدودٌ .. كالإسفنج ِ غمامها
ممضوغة ً طريّة في الأفق المعتّق .
و جديّ أحياناً يغازلها و يطارحها الغرام ،
يقولُ لها أحبك بعدد حبّات ِ زيتونك
و يغرزُ كفه ُ المعروقة في جسدها المسجّى ،
لاثماً ملحاً في أصبعيه من أثر الرغام .
وجهها محددٌ بالحجر ِ المكحّل و الرخَام ،
عظمتا وجنتاها يبرزان في الضوء الملفِّح ،
و عنقها المزروع بالفول و القثاء و الرمان ،
كل ذلك كان يؤرقه و يستنزفهُ فلا ينام .
كان جدي موغلاً في حبّه و نشيده ..
ليس ينام إلا دقائقاً في قلب السنديان ،
ليستيقظَ في ليله و بيده قنديله ..
و يحرسَ الزيتون و الريحان .
بثوبه الخاكي أذكرهُ ، يحفر الأرض و لا يتعب .
شاعراً فيها ، متى نوّر اللوز و متى يُنجِب .
و مخاضها ، ثقل في صدره و آلام تترتّب .
عصفور ٌ مرّ من جبينه مرة ً ،
فلم ينبه لهُ و هو يقضم أرنبة أنفه ِ كالعنّاب ،
و لم يقطّب لجدي قطُّ جفنان .
في محجري رأسه طائران ،
و كفّهُ مبسوطة في جبينه المترقِّب ،
متى تشابكتْ في السماء غيمتان .
ظلّ هرماً في صعيده ، ينكش التراب
و ناظرهُ مقلبٌ في السماء يشتهي مطراً
و لقمته مغموسةٌ في الزيت ِ من زمان .
و كانت جدتي عجوزاً مثلهُ ،
تبسطُ شعر الدالية و تُفليّ العدس .
و تحدّث الجارات القريبات الحميمات ،
عن سور ٍ عال ٍ في القدس ،
ترسمهُ لهم ، في الهواء ، بعصا صولجان .
و حينما يغادرها جدي في الضُحى ،
و صوته يردد الأوراد على عَجل ..
تُنهِضُ رأسها عن المخدّة بالشعرات الشائبات ،
و تسترجعُ في سِّرها المعوَّذات .
تزمُّ شفتيها ، تخسفُ خديّها ، تمطّ كتفيها
ثم تفِّكُ ضفيرتها بزعلْ ،
و تقولُ في سامعها ..
ذاهبٌ إليها إذن ؟ .
صار جديّ لا يُعرف إلا من نحيبه ،
إذْ كان في الحصاد عيده ..
ستون عاماً منذ أن داعبها في أصيله .
ستون عاماً منذ كان يصحبها و أضاعها في سبيله .
لفّها بالأماني و البركات .. و عرقاً تصفّد من جبينه .
نضا عنه شرواله و سكب عليه من ماء البحر ِ بارداً .
جدي سافرَ كثيراً ، طوّفَ في السواحل ِ غريراً .
سوى أن الملح ، كالذاكرة ، لاذع ٌو مترسِّب .
قيّحَ جرحه ، و أذكى ندمه ، و شرنّق له حنينه .
فآثر صمتاً و ارتدّ صنماً عابساً قفيرَ ،
و الذين تمسّحوا به .. اشتهوا تكسيره .
و لما نُقِلَ جدي إلى قبو البناية ،
كانوا في الأعلى يقلبوّن شرواله و نعله ،
و أخطأووا في تسجيل اسمه في الكشف الطبيّ
لأنه عربيّ ..
في الغيبوبة ، هذى بالليمون و الدحنون
و كأنما عيناهُ المسدلتان فاضتا
لذِكر الزيتون ..
فما أن بات ليلهُ في حجرة التشريح ،
حتى سحبوا منه سريره ،
و تركوا لهُ عُريّه .. و المَنون .
مَن سرقَ الزيتون منهُ ؟ من يكلّم الكرمة َ بعدهُ ؟
مَنْ لحجر ٍ رفعتهُ كفهُ ، مسحَ عنه الرغاب و الكسلْ
صلّى عليه في عشيّة رمضان ،
توسّدهُ غبّ السقوط في غمرة العمل .
تقبّضهُ في وجه العَسس و الزُعران .
حكّ به مِشط رجله في ساعة خَدر ٍ و مَلل .
أن يُفهِم الحجر ، أنه استطاع النسيان ؟
2- نشيدُ زهرة اللوز ِ و الحمامة .
صباحٌ أُنيرتْ فيه جنبات الحقل ِ ..
و العصافير تستأنفُ حوارها المحموم .
و كلما بان شيءٌ في السحابْ ..
غَابْ .
الربيعُ أطلق شَعرهُ للريح ِ غير ملموم ،
و نشرَ غسيلهُ المضوّع حذاء السبل ِ .
على كتف الجنينة ..
- و كأننا في قصة من قصص ألف ليلة و ليلة –
حطّتْ حمامة على حافة السور ِ .. حزينة .
و قالتْ :
" تركني الحمام و ولّى ..
غاب و ما عاد يتسنّى ،
كأني حمام من طين ..
و همَّ حمام الجنة ."
حكّتْ الحمامة جناحها ،
و نطّتْ قليلاً .. قليلاً ،
رأسها دوّر و الدمع غطّى أحداقها .
حينما ميّزتْ بين الدمع ِ المشرّق ِ
التي ما ضِيهتْ مثيلا .
شجرة ٌ تفردُ إغراءها و أزهارها ،
تَهِفُ على عينها رمشاً شهيلا ..
زهرة اللوز ِ أغصانها في المدى مفروشة ،
مغطاة ً بشال ٍ أبيض كتاج العروسة .
كلمات الغنج ِ في بتلات أوراقها منبوسة .
في غدو الرياح ، تقول الأرض مصطبرة ً :
أنا راضية ٌ يا رياح بقدري ..
فلتبقى أظفار ِ اللوز في لحمي مغروسة .
رفّ لها قلبُ الحمامة إذْ كانت وحيدة ..
تُسلمُ لضوء الشمس ِ مسام جلدها .
فترى الضياء تكثّفَ من حولها ،
غلالة ً أشرقتْ فيها الملامح الرزينة .
فمٌ كرزيّ ، و أنف خاشع ..
بين العيون السوّد هاجعْ .
" قرفصَ أمام النار ِ ..
و هي تلفحُ وجههُ .
أوقدَ الأيقونة و الغار ِ
و الدخان يلفّهُ .
يلهجُ بالجمل ِ القصار ِ ،
كي يهدهد بها جَفلهُ . "
" يا قديّسة العينين ..
على بابك مجوسيٌ يُحبُ أن يتبتّلْ ،
نضا عن نفسه التلعثم و الخجلْ .."
أرى في عينيك ِ عريشة عنب ،
و في شفتيك ِ سحّارة ليمون ،
لا . لا تكيلي لي العَتبْ ..
فما قولي ذلك ،
سوى أنني عاجزٌ عن السكون .
و إصرارك ِ بوضع العدساتْ الملونة تلكْ ،
لا يورثني غير العَجبْ ..
فليس يزيدُ جمال العنبْ ،
أن يكون في الصحون .
و في ثغرك ِ سنٌ صغيرٌ قرب الشفّة ِ ،
أشتهي لو أن اصبعي يلامسهُ و يصليه ِ .
فتحسبينَ شرودي فيك ِ تحرّشاً .
تعضيّنَ على أصبعي فتدميه ِ ،
آه ما ألذّ طعم دمي و لعابك ِ فيه ِ .
آه يا لأصبعي مَنْ يُنسيه ِ ؟
أن مطر السماء ِ الأولى يُنديه ِ ؟
و افرضي ، يا ضاحكة السن ِ ، تحسّباً
ثماراً في تراب أصبعي تَبرعمتْ ،
إذْ ماء شفتيّك ِ غذّاها .. فأينعتْ و تبلّسمتْ .
في عقلة أصبعي الثمرُ ، فمن الآن يجنيه ِ ؟ "
عادَ للحمامة وعيها ، و أبصرتْ زهرة اللوز تضحكْ ..
قالت الحمامة في سرها .. ما لها ؟
و رأها تشيحُ عنهُ و اللبّان تعلكْ .
- أول مرة في حياتي يصادفني حماماً يعشقْ ،
حذار على قلبك الصغير .. فلربما من الحُب ِ يَنفقْ .
قالتْ زهرة اللوز ِ و مسّدتْ حريرها و الإستبرقْ .
- و ما ضيرُ الحمام ِ إن يعشقْ ؟
طوّفتُ كثيراً حتى آيسنى سعة السماءْ
كلما رفلتُ بمنقاري شبراً .. شبراً ثان ٍ يَفتقْ .
- و هل علمّتكَ الحياة ُ شيئاً ؟
- أن أصمتْ .. و القلبُ يخفقْ .
- هل أحببتَ لأن الجمال ينقصكَ ،
أم تجمّلتَ لأن الحُب سيحدقْ ؟ .
- و مالفرقْ ؟
- لا يفتنني حُب الحمام ..
تكفيني الرياح ، كلما مرّت بي مسّتْ رُكبي ،
و أطارتْ ثوبي الليلكيّ .
- و هل الأبيضُ فيك ِ ..
على الأبيض فيّ لا يُشفِقْ ؟
- اُف .. كم أَملُّك !
- آه .. كم أُحِبك .
تسرّبَ إليّ الحُب من بريد ٍ عاجل ٍ ،
فاصابتني الحمى و ارعدني الإرتجافْ .
يقولُ الحبيب لحبيبه من غير أن يخافْ :
" أُفقد نفسي أمامك .. هنا و هناكْ .
سبحان من جمّلكْ .. سبحان من خلّاك ِ ملاكْ ."
" أطلِّ عليّ بفم ٍ مُبرعم ٍ
و شفاه ٍ ناتئة ٍ ملويّة .
بعرائش عينيك ِ المحنيّة ،
تتوسدُ ثرى البشرة السكريّة .
أطلِّ عليَّ بأول مَبسم ٍ ،
بإبتسامة رشيقة سنجابيّة .
و عبّقي أنفي بعطر ٍ مُضوّع ٍ ،
فإنني مللتُ رائحة العِطر الصناعيّة ."
لما تخوضينَ الأزرق الكحليِّ ،
يهمسُ العوسجُ للبنفسج :
ما نحنُ إلا نبات الأرض ِ بدائيّة .
و لما تدورينَ في دوّامة الأصفر النحليِّ ،
يُسِّرُ الريحان للإقحوان :
ما نحنُ في سِفر الورود إلا حروفاً أبجديّة .
و لما تتوشحينَ الأبيض الثلجيّ ..
يُعلن الأوركيد للفرفرحينا :
أي زهور نحنُ للحقل .. منفيّة . "
- كفى يا حمامة ، قد أوشكتْ الظهيرةُ على الإنصرافْ ..
- حقاً ؟ ، كنتُ مشغولاً بالحُلم ِ حدّ الإسرافْ ،
و للحقيقة ..
- حقيقة ؟ . عاشقٌ يا حمامة .. و فيلسوفْ ؟!
ا حنتْ الحمامة رأسها يائسةً بعنق ٍ مقصوفْ .
و همّتْ ببوح السليقة ..
- اعملْ معروفْ !
أعييتَ قلبي ، نكّدتَ عيشيّ .
و لو تحلييتَ أبداً بالشهامة ..
- آه . كم أهرقتُ فيك ِ من حروفْ
تعساهُ ، لا أنساهُ .. لا أنساهُ .
لن تري الحمامة .. و لو قامتْ القيامة !
3- نشيدُ الحطّابْ .
كم شاقني إليكَ ضوءُ صباح ٍ جَديد ..
أو ماء منقّط ٍ في قَرعة الأرض يميد .
قد عافَ النحلُ أزهاريّ ..
و مازجَ ملحُ الدمع ِ لبّ أثماريّ .
فما ناظرني يوماً سطح ُ غمامة ٍ ،
أو أضناني النشيدْ .
إلا و رأيتُكَ محلّقاً عكسَ انتظاري .
بوجهكَ المُزهر المفتّح السعيد ،
اسمعُ صوتكَ يترجّعُ بين الأشجار ِ
و إن يكُ قلبها عال ٍ على القامة ِ المديد ،
فإنيّ زهرة اللوز أُصابُ بالأنوثة ِ و الحِصار ِ !
و تقفُ على شرفة ِ بيت ٍ و عُشك على القرميد .
لمَ آثرتَ المشيّ وحيداً يا قلبي ..
نحو مشتهاكَ البعيد ؟
تتخذُ لخفقك ِ الذي أُحب
من السُحبِ ستار ِ .
هل كنتَ حقاً تَهّمُ بإختباري ؟
هل راهنتَ في اختمارة ِ ذاتك على انهياري ؟
أنثاكَ يا سيدي فاشلة ٌ علامتها التنهيد ،
فإن فررتَ كثيراً و طالتْ بكَ الأسفار ِ ،
و قلّبتَ الأمر كأنما تميلُ للتفنيدْ ،
أو أعازكَ كبرياؤكَ عن اختياري ،
و خِلتَ نفسكَ من الحُب شهيد ،
فاعلم أن غيابكَ عني ّلم يجاوز لحظات ٍ قصار ِ ،
و أن درباً أغابكَ .. إليّ بك َ يعيد ."
( يُسمعُ وقعُ أقدام ٍ في الممر المفضيّ إلى جنينة الأزهار ، بينما يحطُّ جسم على السور المقابل ، بحيث لا يبان كأنما هو في الظلام .. و تستشعرُ زهرة اللوز دنو الخطر و تربّصه . )
" ما أفسدَ فيك ِ الربيعُ يا زهرتيّ ! ،
أقعى فيك ِ حُب الحياة و ازدهرْ ،
لبارق ٍ تنشّقتْ خياشيمك ِ منهُ و استسلمتْ
فما عقّدَ على صدرك ِ حَبٌّ و لا ثَمر ..
لأمررنَّ في حشاياك ِ نصول عدّتيّ
و لأجعلنَّ ذكرك ِ عبرة ً لمنْ لم يعتبرْ . "
( أقبضَ الحطابُ كفّهُ على مِقبض الفأس و شرعَ ينفّذ ما انتواه ..)
" - ثَمِلتُ من المطرِ ،
و الريحُ في رأسي دوّمتْ .
تشابهتْ عليّ جهات السفر ِ
و أطرافي من برد ٍ قارص ٍ تكرمشتْ .
لكن في صدري قلباً دافءاً ،
يخفقُ بحب ِ لوزة الزهر ِ . "
( رفع الحطّاب فأسه عالياً و هوى به على زهرة اللوز ، فلم يُصِبْ إلا الحمامة ، مما أسلمَ الحمامة إلى التفّسخ و التمزّق أشلاءاً ، فسُفحِتْ دماؤها رشقاً و تناثرتْ مُهرقة ً في الفضاء .)
قال الإبنُ لأمه و النعاس لا زال في عينيه :
أمي .. ما بال زهر اللوّز احمرَّ فجأة ً ؟ ،
ألم يكن له بياض الثلج في البارحة و حسبْ ..
ردّت الأم مغالبة ً حيرتها :
يا بني الزهرُ مثلنا ..
مصيرهُ أن يكبُر .
26 \ 3 \ 2011
No comments:
Post a Comment