كعادته ألفاهُ يركض في الدولاب الصغير ذو المسننات المستطيلة التي لا يتجاوز طول واحدها عُقدة الأصبع . كان في قفص ٍ موضوع على الطاولة ، فأرٌ أبيض بذيل ٍ غريب الشكل ، يؤرجحُ به خلفه كلما صعدَ إلى الدولاب بمشيئته كل يوم . يستمرُ بالركض الذي يجعلُ الدولاب يدور كأنما إلى لا نهاية . هو فأرٌ أعمى رهين محبسين ، اكتشفَ ذلك منذ مدة طويلة ، و لكنه عَجِبَ مع مرور الوقت من مقدرته العجيبة على المواصلة . رغمَ أنه لا يرى ، ثم لماذا يصرّ على الدخول إلى الدولاب و الجري فيه ؟! . هل هو اليأس ؟ ، لكن المضي في المحاولة مُتعب ، فهل هذه الروح لا تيأس و لا تتعب ؟ . و ما هو معينها الذي يبدو أنه لن ينضُب إلا بالموت ِ و الفناء ؟ . الحياة ؟ حُب الحياة ؟ . أعرفُ أنها كافية لكي يدافع عن وجوده ذاك الدفاع الوحشيّ و ليس الصعود إلى الدولاب فحسب . لكنني وصلتُ إلى هذه النتيجة متأخراً ، أي بعد أن تحوّلتْ قطعة اللحم التي تحب الحياة و التي لفظتْ الروح من بين جنباتها أخيراً ، هذه الروح التي كانت أشبه ما تكون بمرجل ٍ يغليّ بالتشبّثْ رغبة ًأزليّة بالبقاء و الإستمرار ، إلى قطعة باردة خالية من الدفء . لقد ماتْ . رفعتهُ من ذيله إلى مستوى نظري ، مُقلِبّاً إياه جسداً هامداً فاقداً روحه حال لونه إلى الشحوب ، فوق سطح الطاولة . وصلتُ إلى نتيجة أن ليس هو الخوف و لا الرغبة بتاتاً إنما هو الحب . كان أبيض الشعر بأرجل ٍ قصيرة و ذيل ٍ غريب الشكل كما وصفتُهُ من ذي قبل .
تملّكتني نزعة خبيثة إلى أن أفاقِم معاناته ، فعمدتُ إلى تعذيبه و مضاعفة شقائه . أول الأمر ، جعلتُه في مواجهة القِط السمين وحيداً أعمى بلا أي أمل ٍ للنجاة أو أن ينفد بجلده . إلا أن القِط تركه بعد وقت ٍ قصير و لم يَهمّ بالإقتراب منه خطوة واحدة . فاحتملتُ أن يكون هو القِط القوي قد أحسّ بحدسه فقدان الفأر للبصر ، و أن لا مغنم واف ٍ يرجوه من جراء هذه المغامرة ، فلاذَ عنه مُبتعِداً . فقمتُ بإعادة الفأر إلى القفص و رجع يؤدي فعله السابق ، بأن يركض في الدولاب كارّاً إياه في حركة دائريّة متواصلة طيلة فترة الركض . ثاني محاولة كانت بعد أن عِفتُ الفأر و الدولاب معاً ، و انتهيتُ إلى استحالة أن أعثرَ عن الدافع الحقيقي الذي يُصعِدُ الفأر إلى الدولاب بل و الركض فيه كأنه مُجبَر و مُرغم على أداء ذلك . أي قوة ٍ تلك التي تطيش بالحياة فوق بحر ٍ من الموت ِ و القفار و العَدم ؟ ، قاهرة ً إياه منتزعة ً لقمة البقاء من بين شفتين يابستين جافتين ؟ . عجزتُ نعم عجزتُ ، و لم أفرغ إلا إلى دروب مسدودة لم تُفضِ إلا إلى المزيد من الحيرة ِ و العجب . و في لحظة ٍ فقدتُ فيها السيطرة على أعصابي و إمساكي بزمام المعقول و المنطقيّ ، في لحظة ٍ تكاثفتْ فيها سُحب القسوة على ربوة مشاعري و إحساسي . دفعتُ بيدي إلى داخل القفص جاذباً إياه و قد سحبتُه من ذيله و هو يكافحُ بصعوبة مريرة في الهواء و يضربُ برجليه و يديه فاقداً إتزانه ، ثم نحيّتُ غطاء الموقد الساخن و ألقيتُ به بحركة ٍ خاطفة في قلبه المتجمِّر .
ذبّلتُ بجفني هنيهات ، و قد ارتدّ نظري عن سطح طاولة و يداي متخذتان هيئة الوسادة بأن أركيتُ واحدتهما فوق الثانية . كنتُ قد استفقتُ لتوي و عاد إليّ الوعي بموجدات الحُجرة ، فتناهتْ إليّ قرقعة ٌ خافتة ، إذْ هو الفأر الأعمى نفسه يستمرُ بالركض في الدولاب .
8 \ 10 \ 2010
No comments:
Post a Comment