Friday, March 23, 2012

الرسمة

 

 


توقفتْ للحظة . كانت في طريقها إلى الأهل الذين تحلّقوا حول الزيتون ، عندما لاحَ لها وجهه المدوّر الصغير مخذولاً تَعِساً ، يضربُ في البستان على غير هدى ، بشعره ِ الأسود الخشن و عينيه الخرزيّتين الضيقتيّن . و لما همّتْ أن تناديه ، ألفته يقتربُ بخطى بطيئة من صخرة ٍ كبيرة كانت إلى نحو ٍ قريب ، و يخرِجُ دفتراً من حقيبته المدرسيّة ، فجلسَ و أخذَ يقلّبُ صفحاته ساهماً تشي نظراته بالملل و الضيّق ، حانياً رأسه موسِّداً إياه قبضته المضمومة ، مؤرجِحاً ساقيه الذي احتواهما السروال المدرسيّ القصير ، بحذائين مُغبريّن تلطّخا بطين البستان .



كان موسمُ قِطاف الزيتون قد حان و انتشرَ لإقباله أهلُ البلد ، يفرطونَ الحبّات السوداء و الخضراء على أكياس من النايلون أو شراشف و بُسط خفيفة يفرشونها تحت الزيتونة ، مشتبكينَ مع أغصانها الحانيّة في شد ٍ و جذب ٍ متواصلين .



لم ينتبه إلى وجودها إلا عندما حاذته و صارتْ فوق رأسه .



بادرته مُشفِقة :



- سعد . ما بك ؟ أراكَ حزيناً ، و هذا مما لا يليقُ بتلميذ ٍ في الإبتدائيّة .



- لا شيء يا أختاه ..



و فرشَ كفيّه الصغيرين فوق ركبتيه ، ثم أردفَ :



- أين أبي ؟ أين أمي ؟ .



- هناك .. في الجهة الثانيّة من البستان . لماذا ؟ هل تشعر بالجوع ؟ .



- لا . أنا فقط عطشان . 



و نزلَ عن الصخرة مُبتعداً ، ماضياً تحت الشمس بين الأشجار .



ارتدَّ نظرها نحو أشيائه ، بما فيها الدفتر المفتوح . أمسكتْ به و انزلقتْ بين كفيّها الصفحات مُمررة ً عليها النظر بسرعة . نحلة ٌ تقفُ على بتلات زهرة ، شمسٌ في يوم غائم ، و عصفور على شجرة . كان يتفق لخياله الطفوليّ الجميل أن ينبعثَ على الورق ، فيحلو له أن يُفرِغَ علبة ألوانه على السجّادة ، مُتربّعاً ، مسترسلاً في الرسم و التلوين . لكنها ما لبثتْ أن وقعتْ على رسمته الأخيرة ، " شجرة ُ الزيتون ." 



كانت الرسمة مكتملة و تشبهُ إلى حد ٍ بعيد أشجار البستان ، غير أنها ناقصة الألوان . فالأرض بلون ٍ بني ٍ كامد في أسفل الصفحة . و السماء الزرقاء و السحاب الأبيضٌ الخفيف في أعلى الصفحة مع شمس ٍ صفراء مُشعة . أجنحة ُ عصافير ٍ سوداء بعيدة تلوحُ في الأفق ، ثم الأوراقُ بلا لون ، تساءلتْ .. لماذا ؟ 



دسّتْ كفها في الحقيبة و بدأتْ تبحثُ عن اللون الأخضر بين الألوان فلم تعثر عليه ، و آثرت أن تعرفَ سبب ذلك من سعد ..

 





--------------------------------------------------------------------------------




لم يطرأ في بالها قط مما كان قد حصل للجمع أثناء غيابها .



رويَّ لها أن حفنة من المستوطنين اليهود كانوا قد استباحوا البستان خلسة ً ، فرفعوا السلاح على الناس متوعديّن إياهم مهددين ، و ما لبِثَ أن انضم إليهم بضعة جنود صدوّا الرجال و أبعدوهم . بينما راحَ المستوطنون بالتخريب و العبث ، فقصوّا الأغصان بمناشيرهم الكهربائيّة ، دالقينَ محتويات الأكياس على الأرض . حتى أن أحدهم شوّهِدَ و هو يهمُّ بإشعال النار . لكن الأستاذ صبحي ، الذي لا يدري أحدٌ أين كان بالضبط حينئذ ٍ ، تفلّتَ من الطوق الذي ضربه الجندُ على الرِجال و أسرعَ مطوّحاً بقبضته نحو المستوطن المعتدي ، و الذي همّ بالفرار ..




كان سعد قد ركض كثيراً وراء الجيب العسكري و هو ينادي أبيه المركون في صندوقها الخلفيّ المشبّك مع إخوانه من أهل البلد .



و عندما شاهدتْهُ يذرعُ شرفة البيت مساءً ، لم تشأ أن تسأله : لماذا لم يُكمل تلويّن الشجرة ؟ .





--------------------------------------------------------------------------------




شاعَت في المدرسة ، في اليوم التالي ، حكاية الأستاذ صبحي و هو ينقضُّ على المستوطن و ينزعُ منه ( غالون ) الكاز الذي كان ينويّ أن يصبّه للإشعال ..



و وصلَ الطلبة إلى نتيجة أكيدة ، مفادها أن حصة الفنون لهذا اليوم ستكون بدون الأستاذ صبحي ، و قد يُتاح لهم أن يعودوا مبكريّنَ إلى بيوتهم . بما أن حصة الفنون هي الأخيرة في الجدول الدراسيّ .



حتى أن الأستاذ عصمتْ ، أستاذ اللغة العربيّة ، أكّدَ لهم أن الأستاذ صبحي لم يأت ِ إلى المدرسة هذا اليوم ..



و حينَ همّ التلاميذ بزمّ حقائبهم و الخروج . انشقّ الباب عن وجه الأستاذ صبحي ، كأن شيئاً لم يحدث في البارحة . تقدّم من طاولته بهدوء ، ثم قلّب ناظريه في التلاميذ المشدوهين ، و قال :



- لقد طلبتُ منكم في الدرس الفائت واجباً ، أن يرسُمَ كل واحد ٍ منكم شيئاً عن موسم القِطاف . و لذلك ، ضعوا دفاتركم مفتوحة ً فوق الطاولات .



و لم يجب أحد .






إلا أن خناقة نشبتْ فجأة ً ، ارتفع لها صياحُ إبراهيم و سليم ، و جذب واحدهم الآخر من ياقته . انتهتْ بأن سالَ الدمُ من كليهما . و لزم الأستاذ صبحي إزاءها الصمتْ ، و اكتفى بأن حدّق قي الوجوه من وراء طاولته .



انفضّ التلاميذ ، الذين هبوّا لفضّ الخناقة ، و انصرفوا عائدين إلى أدراجِهم مُخرجين دفاترهم ، مُنتظرين الأستاذ صبحي ، الذي سمح بدوره للمتشاجريْن بالخروج للإغتسال من الدم المسفوح . و صادفَ حينذاك أن يكون بين كفيّه دفترُ سعد فلاحظَ تلك الشجرة غير ملوّنة الأوراق بتاتاً .



و اضطربَ سعد و رفع عينيه بقلق إلى الأستاذ صبحي ، قبل أن يسمعه يتوجهُ للتلميذيْن نفسهما بالكلام :



- تعالا ، و ليمسح كلاكما دمه هنا .. على الرسمة .

No comments:

Post a Comment