من تحت الناموسيّة يبانُ ضخماً بذراعين مشعرتين مصلوبتين يضمهما إلى صدره و هو راقدٌ فوق السرير . إماراتُ وجهه الغضبى و تشويح كفه المستمر في ذبّ الحشرات المحومّة حول أنفه
رن المنبّه قبل لحظات ، فانثنى جذعه إلى الحافة و انزلقتْ قدماه في الخُفّ و التثاؤب لا يترك فرصة لفمه بأن ينغلق . ارتدى بنطاله و قميصه ، ثم مشّط شعره أمام المرآة و قد أسقط من حسابه
تناول طعام الفطور على أن يفتتح يومه في المكتب بفنجان من القهوة يناوله إياه العم أبو أحمد بساعده النافرة الخضراء . و لما طرفت عينه ساعة الحائط ، كانت السابعة و الربع صباحاً ، فنقل
خطوته الأخيرة من خلف الباب و اختفى خلفه تماماً ..
هو في ربيعه الثلاثين ، موظف في دائرة حكوميّة ، عادة ً ما يلصق بين عنقه و ياقة قميصه منديلاً ورقياً ، شعوراً منه بقدسيّة النظافة ، فلا يُشم له رائحة عرق و أظافر أصابعه كأنها لا تنمو ،
حليق الذقن لامع الشفاه حيث جذور شارب ، بجزمته السوداء تشاهده يطقطق في الدهليز ، قبل أن تسمع صوته حذاء عارض الباب الخارجي للمكتب و هو ينادي مسؤول البوفيه العجوز ، ثم
يلوح وجهه كأنه من بين سحاب برونزيّ البشرة كبير الرأس ، يعملُ بجد لا خلاف عليه ، يظلّ وراء المكتب حاني الرأس على الأوراق ، و لكن هذا كله لن يكون أبداً قبل الساعة التاسعة . أي
بعد أن يتناول الرغيفين من يدي أبو أحمد و هو يغمز له باتجاه المراجعين ، ثم يغمس طرفي أصبعيه المعقوفين في صحن الزيت ، و أبو أحمد يدفع بالمراجعين متناولاً معهم الشدّ و الجذب ،
فيلعلع اللغط و تعلو الأفّ عالياً من الصدور ، لكنه يعزمُ علينا مشاركته بالرغيف المخموش و صوته في ناحية أبو أحمد على مسمع ٍ من المراجعين :
- الذي لا يعجبه ، هناك المدير .. على أيديك اليمين يسار يسار !
و المدير يعرف و نحن نعرف ، و المؤسسة بأكملها تعرف أنه يرتشي . المعاملة لا تخرج من درجه الأيمن قبل أن يكون " الكادوه " في درجه الأيسر .
نخرج نحو الواحدة بعد الظهر و هو لا يزال جالساً يردّ على المكالمات ، بصوت ٍ هامس أحياناً و عال ٍ أحياناً أخرى . علاقته بنا رسميّة في حدود المكتب ، تكتسي جبهته بالجَد و الوقار ، أما خارجه
فتشاهده مُلقى ً على بطنه من الضحك و هو ينقرُ كتف محدثه ،و لا تني خيوط المكر و الثعلبة تخيطُ نفسها حول عينيه و فمه . إنه إنسان لكنه مرتش ٍ و الجميع يعرف ذلك حتى المدير نفسه ، و
الذي يطلّ في نهاية الأسبوع ليشتكي لنا ، محاولاً تخفيف دمّه ، عن عدم جدوى استجداء الوزارة في موضوع بنزيّن سيارة المدام .
تلاشى صوت الباب . الحُجرة مضاءة بعمود إنارة فلوريني ، و على الحائط نافذة نصف مُشرعة . الطابق الأول تقودك إليه سلالم واطئة . الساعة الآن السابعة و النصف صباحاً . بزغ خيط أسود
من فتحة في أقصى الجدار ، نقطة في البدء ، أطل من فتحتها الصغيرة غير المرئيّة بشكل غير متوقع ، و تنسّل بحجم لا يُصدّق . عنكبوتٌ أسود . مرتخي الأطراف ، جعل يتلمّس الأفق الحجري ،
بثقل ٍ حتى ارتكزَ فوق النافذة مباشرة ً أشبه بخيمة قزمة .
لم يكن هكذا ، أؤكّد لكم صحة ذلك ، لقد تغيّر و إنني لأستطيع التحدث عنه بالمزيد . الشاب الطموح لا زال فيه ، انتقل منذ سنتين و كنا نلتقي به لماماً في مكتب صديق ٍ لنا . أشكّ أحياناً أن منصبه
السابق لم يتح له فرصة مدّتْ اليد . ذات مرة أعترض عليه زميلنا أخذه للرشوة ، فردّ :
- ليس لأحدكم الحق بمخاطبتي بهذه الطريقة ، لستُ في دائرة حسابكم و مساءلتكم . و أنصحك أنت بالذات أن ترمي أنفك هذا الكبير في الورق أمامك !
من المعلومات القليلة المتوفرة لدي ، هو ليس بالمتزوج يسكن في حجرة في الطابق الأرضي كمستأجر لدى سيدة مقدّرة كبيرة في السن لطيفة للغاية . مرة ً شربنا عندها الشاي و نحن ننتظر
بالمستأجر المريض ، و الذي دهشنا أنه كان في الخارج . قالت لنا السيدة أنه انتقل مؤخراً من الطابق الثاني إلى الأول و لم يُبد ِ أي سبب يُعزى إليه قراره .
دُفِعَ الباب و نهض من جديد في الحجرة . خلع قميصه و بنطاله و بقي في ملابسه الداخليّة ، و لم يجد نفسه إلا على السرير . شدّ إليه اللحاف الصيفي الخفيف و ضغط زرّ المروحة ، و عاود
إغلاق و فتح عينيه . ظهرت له الومضات كالتالي : أولاً - باب الغرفة المشقوق قليلاً ، ثانياً - العقرب على الثالثة ، ثالثاً - الحائط الأبيض ، رابعاً - طرف الستارة المُستطار و الذي يبعث في
النفس مزيداً من الخدر ... ثم اللطخة . أسندَ نفسه على كوعيه و نهض . بحلق بعينيه على وسعهما ، حار في هوية الشيء ، أعتقده لوهلة أفعى دخلت من الخارج أو خرقة سوداء معلّقة ، أو
لربما آلة تسجيّل صوتيّة . تحرك حوله و حدسه ما هو ، قال في نفسه أنه لا يؤذي ، فابتسم ..
و سُرعان ما اعتاد أحدهما الآخر ، و سُرّ الإنسان في نفسه قوة الحيوان الضعيف ، فلقد وفّر عليه طنين الذباب الليلي و لسع البعوض المؤذي . لكن مشكلة بسيطة ظلّت في طريق إندماجهما .
ماذا عن الخيوط ؟ تلك المنسدلة من السقف ، إن العنكبوت لا يمشي إلى الأمام إلا و الخيوط في عقبه . و فكّر :" ماذا يكون إذا تركه ينسج عالمه ، هل سيجد نفسه يوماً لا يستطيع ولوج الحجرة ؟
لا . سيبني جسره و الأيام تتكفل بوهنه . هل سيقع عليه ذات صباح و قد تضخّم جاثماً على صدره ؟ لا .. يا إلهي ! إلى أين يقودك التفكير أحياناً ..
صار بذيئاً بعد ذلك ، حاول الإستبزاز و الأتاوة . ما أضعف ما آل إليه هذا المخلوق . في البدء ألتقط الذباب القادم عبر النافذة و قد أتاح له بعدّة ليال هانئة ، ثم أقعى في الزاوية يحدجُه بصفاقة .
قال لنفسه بعد أيام يجوع ، خاله متخماً . و لمّا يهم بإسداء خدماته مجدداً ، سيقتلعه بكفيّه و يُلقي به من النافذة ، و لكن .. ماذا لو عاد كرة ً ثانية ؟ .
دُفِع الباب ، و ظلّ لثوان ٍ يبلع ريقه على صوت الباب المصفوق ، و قد أصفرّ وجهه و احمّر خده و تسارع نفسه . كاد يشرعُ في البحث عن ورقة هامة ، تخص القريّة السياحيّة الحديثة ، و لثوان ٍ
أحسّ به خلفه ، كأنما راح عن باله ، ينظرُ إليه ساخراً و لعله أراد أن يلتفت و يسأله عن الورقة الضائعة ، لكنه لم يلتفت . شعر بقلبه يدقّ بقوة ، إنها فرصة العُمر .. سيترك عمله و يبدأ كرجل
أعمال ، ألم يمل رؤية الأوراق النقدية ذات الفئة الصغيرة ، ألم يحن الوقت ؟ كفى ! ماذا تبقى من العُمر ؟ . بحث بعينيه و يديه و قلبه و حدسه ، و لم يفرّ من العنكبوت ، إنه هناك في مكان ما خلفه
، مقرفصاً يضحك ضحكات ٍ مكتومة . جُن . مرت ساعة ساعتين ، و لا يزال منكبّاً على ركبتيّه و عينيه الزائغتين تفتشّان . أين وضعها ؟ هل ضاعت ؟ إنه لا يقع على أثرها . لطم وجهه و صدغيه
، و ماذا إذا وقعت في مكان ما ؟ الأنوف التي تقابله في المكتب مثلاً ؟ . بحث تحت السرير ، في الخزانة ، آنية الزهور ، رفوف المكتبة ، بين الثيّاب ، رفوف خزانة الأحذيّة .ألقى جميع الكتب و
الورق على الأرض . الملفات و الأضابير و المعاملات اختلطت و تكوّمتْ ، كأن الأوراق قشّاً تتهوى على ضربات الشاعوب . ليس من وقت زيادة ، و آلة الخيوط هذه ، التي على الجدار ..لا ترحم .
ببساطة . قرر أن يعدم العنكبوت . بحث عن خشبة غطّسها بالكايروسين و أشعلْ . أضاءت شعلة ً ملتهبة فوّارة الإوار و رمى نحو الخيوط الكثيفة المعشعشة على السقف . أكلتْ النيران طرفاً منها
و انفلتت . تدحرج العنكبوت لافة ً إياه بالشرار الحارق . أصابهُ فرحٌ شديد و لبث يرقص على مشهد العنكبوت المُحاصر . لكن النيّران امتدّت من السقف إلى كل شيء ، فخاف و ارتعدتْ أوصاله .
و كمحاولة منه للنجاة ، اندفع إلى الزجاجة المُلقاة على السرير ناسيّاً ما فيها ، فاصعدَ الرشيش إواراً أكبر و أمسكت النار بما حولها .
أيقنَ أنه على شفير الهلاك ، ركض و سقط . ارتدّ بصره إلى الجدار مجدداً ، فهاله منظر العنكبوت المتفسّخ . حدس في نفسه بسرعة شديدة ، ماذا لو ؟ و صرخ .. صرخة حيوان ٍ ذبيح .
و في نهوضه انتبه لرزمة الأوراق التي كان يبحثُ عنها ، إذْ اتضح أنها السبب في تعثّره ، أراد التماسك و لملمّة أفكاره المشتتة ، إلا أن النار نشبتْ في طرف منامته
No comments:
Post a Comment