Friday, March 30, 2012

خبرُ الإذاعة في ستين دقيقة

 

 eski radyolar

 

لفّ عروة القميص الأخيرة حول الزِر ، و وجد نفسه أمام باب الشارع مباشرة ً . أهال نفسه على درجات السلم الواقعة قريباً من البَسطة ، فيما كانت أصوات الصبية و بائعي الساعة الواحدة تمتزج جارحة ً غير مفهومة . بسط مِشط قدمه إلى الأمام مرتكزاً على ركبة ساقه الأخرى منشغلاً بربط خيوط الحذاء ، و لمّا رفع رأسه أطلق شتيمة صادفتها عين خالته ، و هذه لم تبال كثيراً أو بالأحرى لم تود إشعاره بالذنب قدر ما كانت تود معرفة سبب هذه الشتيمة ، لكن ابن أختها أحنى رأسه فوق كفها المتخشبّة ذات الرائحة الصابونية و ابتلعه الشارع كأنه شبح في وضح النهار هي تدرك تماماً أنه مغتاظ منذ قرابة أسبوع بسبب الرسالة التي لم تصل عبر الإذاعة مع أنه لا يزال مُصرّ أن والدته تقصد الخميس الفائت وليس أي خميس آخر . و المشكلة أن الرسالة التي وصلت مُهترئة ،  من كثرة ما عُبث بها ، بخط مائل متشابك لم يَرد فيها أي خميس تقصده أم جميل ؟..

 

كان التاريخ إما سقط سهواً أو تعمّد أحد المخربين محيه ، و كذلك لم يظهر تحت أبخرة السماور الساخن . أما في الخميس الذي اعقب وصول الرسالة ، كان موعد تحقق الحُلم بالنسبة لجميل ،

الذي لم يسمع صوت أمه من عشرين سنة عندما تفرّقا على إثر أحداث النكبة . و منذ فترة وجيزة فقط استدل إلى معرفة عنوانها في الأرض المحتلة عبر تاجر كان يعرف والده الشهيد " حسن معروف " .

و كم تاق جميل إلى سماع صوت أمه ، على أنه كان يقول لخالته : صوتك يشبه أمي لكنك لست أمي و بيتك وطني لكنه ليس فلسطين ." جلس الخميس الماضي يُرهف السمع إلى سمّاعة الراديو المخشخشة ، لكن رسالة نداء باسمه لم تصل . على الفور اعتقد أنه سها أو تاه عن الصوت .. فأي صوت ٍ يبقى كما هو بعد عشرين عاماً ؟!

 

و لم يكن أمامه من حل سوى مراجعة الإذاعة في العاصمة عسى أن يجد فيها ذلك الاسم التائه الجميل . وقفتْ الخالة أمام الباب المفتوح على الشارع و قد ردّت السلام على أكثر من جارة صادف مرورهن الطريق في تلك اللحظات ، و لم تجد بُداً من البقاء بعد ذلك ، ما دام أنه لم يعُد يظهر أمام حادي ناظريها ، إضافة ً إلى سريان رعشة خريفية باردة تحت أشعة الشمس الصفراء المشتتة ، فسحبت المزلاج و دلفت تتابع عملها لم يمض ِ الكثير من الوقت حتى ألفى نفسه على مقعد جلدي أمام مكتب الموظفة المسؤولة عن الأرشيف في الإذاعة . يُذكر أن الغرفة ليست بالكبيرة و لا الصغيرة ، حاسرة البلاط و على الجِدار لوحة قديمة بإطار صدء . عند وصوله لم يجد أحداً ممن عانوا مثل هذا السُهاد طيلة أسبوع عن اسم ضائع في زاوية الرسائل الصوتية من أهالي الأراضي المُحتلة . و قد زاد هذا الأمر من وطأة القلق داخله و للمرة الثانية يعتذر من الموظفة طالباً منديل ورقي يمسح به جبينه ، لكنه في الحقيقة يُريد إشعارها بالاوعي بضرورة الاستعجال للدخول إلى مراقب الأرشيف في الحُجرة المجاورة ذات الباب الموصود منذ وصل . لم يكن يحمل ساعة ً في يده ، و ساعة الجِدار منزوعة العقارب كطفل ٍ تسوست أسنانه الأمامية فاضطر الطبيب إلى قلعها . اكتفتْ الموظفة بطمئنة جميل بقرب وقت دخوله و إتمام مقصده . و هذا ما حدث بالفعل أخيراً حيث انسحب من الباب الضيّق رجل سمين بشارب فاحم خشن و قد اضطر إلى اتخاذ المنحى العرضي كي يتمكن من العبور مُشمراً عن زنديه الضخمين المُشعرين ، و انكشف لأول مرة صورة الأثاث الأنيق غي الحُجرة التالية بورق جدار أصفر هادىء و سجاد سُكري متناسق إلى حد بعيد و لون الجدار و السقف ، و لم يُغفل وجود ثلاجة ماء و منضدة . و في نهاية الحُجرة كان جهاز التحكّم الضخم و إلى جانبه الدفاتر الممجلّدة مُغبرة و غير مغبرة . و لمح أيضاً مراقب الأرشيف ، الذي تبيّن فيما بعد أن اسمه أبو إسماعيل ، رجل في الخمسين من عمره شاربيه شائبتين و شفاه مُفلطحة . لا يظهر في وجهه أي شيء يمكن أن يمورَ داخله . كان أبو إسماعيل جالساً أمام دولاب عريض باحثاً عن شيء ما ، لكن من حركة يديه السريعة و المُضطربة يبدو هذا الشيء مُهماً و شاذاً في وقت ٍ واحد كي يأخذ منه كل ذاك المأخذ .و لمّا اقترب منه أكثر قال :

" أريد أن أعرف إذا كانت الرسالة وصلت أم لا ؟"

  - أي رسالة ؟! ، و قد غرز عينيه في عيني جميل مُغايراً ملامحه من الهدوء إلى ملامح وحش جائع

-  رسالة صوتية من سيدة اسمها ... ، و لم يكد يذكر حرف من اسمها حتى لمح رأس الرجل الذي رآه قبل قليل و في يده سجّادة الصلاة و لقد سمعه يسأل أبو إسماعيل عن موقع القِبلة .

عضّ جميل على ناجده من الغيظ و الشعور بالعرق النزِقْ المُبتّل من فوديه كخيطين مُتقطعيّن .

 بخصوص رسالة وصلت من أمي , السيدة " سليمة نادر . -

- آ .. يعني لم يظهر نداؤها في فقرة الرسائل ؟

ليس بالضبط .. لا أعرف ماذا أقول ؟ ، ربما ظهرتْ ..

- التاريخ ؟ .

و مدّ كفه المعرورقة إلى دفتر غير مُغبّر ممرراً أصبعه على الأسماء ، و إذ ينتهي من صفحة يعود بإبهامه على مقدمّة لسانه ، فالصفحة التالية مضى قُرابة خمس عشر دقيقة ، لم يظهر فيها أي جديد ، أسماء كثيرة و الإسم المُبهم في الدفتر الجديد كان يصعُب على أبو إسماعيل و أمثاله فهم ماذا يعني . كان جميل قد لحظ أن أبو عدنان قد انهى أداء الصلاة ساحباً لنفسه كرسياً أمام مِنضدة ، كانت قد ظهرت كشيء غير مفهوم في غرفة رسميّة ، خاصة ً و أن ما عليها ليس أوراق أو لوازم الوظيفة ، إنما رقعة شطرنج ، و إذ انهى أبو عدنان الصلاة جلس قُرابة الرقعة يصفّ أحجارها و هو يلعق شفتيه بلسانه بشهوة .. " يا أبو إسماعيل ألحقنا بكأسي شاي ندفّىء بهما عظامنا .. "

ضرب أبو إسماعيل دفيّ الدفتر ببعضهما البعض و هبّ واقفاً ، ثم قال : " لا أمل ! .. عملنا الذي علينا   لكن .. "

- لكن ؟ .. أرجوك ، أنا قدمتُ من مكان ٍ بعيد و لا أريد ..

- لا تريد ؟ و ماذا يطلع في يدي ؟!

و ببلاهة نظر جميل إلى كفّ أبو إسماعيل ، الذي انتبه لنظرات الشاب ، فسحب كفه إلى جيب سترته الرمادية كأنه طالب في الإبتدائيّة هاله لسع العصا و هي تترنح في الهواء قبل أن تهوي مُعلنة ً رنيناً مُمزقاً اسمع ورائنا أشغال ! , قال ذلك رامياً بجميل خلفه حذاء المنضدة ..

- يا أبو إسماعيل .. الساعة ما زالت الثالثة .. ساعد الشاب و حضّر لنا كاستين شاي .. ثم ... ، إلا إذا كنتَ مستعجلاً على الخسارة .. و انفجر بالضحك .

و لأول مرة يعرف جميل الوقت .. قال بعفويّة مخاطباً الموظف أبو إسماعيل :

"..  أقبّل شواربك  "

و يبدو أن قضيّة الشارب كانت تعني الكرامة و الشرف بالنسبة لأبو إسماعيل فمسّد بأصبعيه عليهما و قال :

لكن .. لا يوجد شيء بيدي الآن .. اصبر يا ابني اصبر ."

و لم يتوان أبو عدنان عن المُزايدة في الحديث :

- إذاً .. ما دام أنك مسكت شاربيك , ما رأيك بعقد رهان بسيط مفاده : إذا فزت حضرتك تعاود البحث مرة ً أخرى لصالح هذا الشاب أما إذا ..

و عندئذ ٍ غمز أبو عدنان جميل كأنه صديق قديم .

صاح أبو إسماعيل :

أما ؟! .. لماذا ؟ .. منْ قال أنني سأخسر أصلاً ؟! ، و حياة شواربي ! -

.. إذاً اتفقنا ؟ . قال أبو عدنان -

بسيطة .. -

بدأ كل من الرجلين بصفّ حجارته و ترتبيها في مواقعها بكل هدوء . بعد مُضي ستين دقيقة ( كما هو مُتفق عليه ) . كان جو الغرفة مُشبّعاً بالدخان ، و كذلك الشيء الوحيد الصامد على الطاولة هو ما تبقى من قِطع الشطرنج ، فلا منفضة السجائر اتسعتْ للأعقاب العَفِنة ، و لا الرجلين المتميزيّن غضباً .

لكن كما تبدّا لجميل .. لم يكن هنالك فائز بين الاثنين ، إلا أن العجيب في الأمر .. وجود خاسر وحيد ، انسحبَ بعدها مغادراً.

تلقفته الشوارع الممطرة حزيناً مُحبطاً ينزفُ حنقاً كالصمغ ، و لا يجد في رأسه سوى اللجوء إلى رصيف يدفنُ فيه أحاسيسه المنسوفة .

في السادسة إلا عشر دقائق وصل البيت ، أطرق قليلاً مُعايناً وجود ضيوف عند خالته ، لكن لا يوجد أحد . 

-  لماذا تأخرت ؟ سألت الخالة .

. كنت أبحث عن محل يبيع ساعات يد بأسعار مناسبة -

. و هل وجدت ؟ -

 



كلا .. هل زارنا أحد ؟ -
 
- مثل منْ ؟ 
. - لا .. لا شيء 
. لقد حضّرتُ لك سماوراً كبيراً .. فلم يتبقَ الكثير على موعد البرنامج -
 
- أي برنامج ؟ 
 
- الرسائل 
. - آ .. نعم نعم .. ما هذا ؟ كيف لم أنتبه أن اليوم خميس ؟ 
و اندفع جذلاً نحو الراديو. 
حوالي السابعة كان صوت واهن ينبعثُ من سمّاعة الراديو ، يبحثُ عن ولد ٍ عمره ست سنوات في عام 1948 و المنادي امرأة من قضا يافا اسمها " سليمة نادر الغطّاس " ، فيما 
كانت عضلات وجه جميل مُرتخيّة و أنفاسه تتابع بإنتظام غائباً عن الوعي في غمرة النوم ، و لا يزال الصندوق المُخشخش ينادي بين يديه ..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


Wednesday, March 28, 2012

نعي ساعي بريد

 

VanGogh, Postman Joseph Roulin 1888

 

ركلَ الوسادة بعيداً عنه ، ثم بصق على كفّه و مسح فوق جفنه الذي لا زال يُثقله النعاس . لا يذكر تماماً الساعة التي نام فيها و لمّا أراد 
أن يعرف الوقت أطلّ من خلف زجاج النافذة ، فوجدَ الشمس و القمر يعتمران قَرعة السماء مُمزِجان الغروب بالشروق . همّ من جديد أن 
يبصق على كفه و يمسح لكنه تذكّر أنه يمكن له الإغتسال بالماء كخيار أفضل . دخل الحمّام بنفاد صبر رافعاً عُنقَ الصنبور للأعلى فتدفّقَ
الماء طاهراً عَذباً ، مدّ يديّه سوى أن لون الماء انقلبَ فجأة ً ، ما زال أن تحوّل كليّاً إلى دماء . صعقه المنظر ، فلم يتخيّل أبداً أنه منذ 
سنوات مديدة مع زوجته لم يكن يأكل و يشرب إلا الدماء ! . لم يلبث أن تحولّت دهشته المصدوعة إلى حَنق ، بدأ كشرنقة صغيرة أسفل
اللسان حتى أعلى الحلق ثم عَدِل عن قراره بالإنفجار بالبكاء لأنه و حَسبْ منطقه ، لم يكن وقت ما بعد الإستيقاظ وقتاً يصلُح لذرف الدموع .
وجد نفسه يخرج من الحمّام إلى المطبخ .. كان الرواق أقصر مما اعتاد عليه و لم يجد زوجته في المطبخ .
ظنّ أنها خرجت للتسوّق ، لكن هذا أيضاً لم يكن مسوّغاً لكي يتراجع عن تصميمه الأخير بأن يختفي خلف الباب مُتحيّناً الفرصة ثم 
يطعنها طعنة واحدة في صدرها .
كيف يخرج من الصنبور الدم فيما لم يكن في البيت إنسانٌ فاجر ؟! ، أما هو فكل ما يعلمه أنه لم يقصّر في حق طفلته الوحيدة قطّ ، ذلك 
أن كل ما حدث .. حدث دون أي قصد ٍ منه ، مع أنه يذكر جيّداً أن الكلب الصغير في أسفل الدرج كان مُسالماً ، و أعتقد هو في تلك اللحظة
، من غير خِلاف ، حول ترك طفلته الصغيرة من خوض اللعب و الكلب . كانت الصغيرة تَدرُجُ على السّلم بخطوات متعثرة و بات يبدو أنها
سقطت ، أراد أن يساعدها على النهوض ، و هو كلمّا استرجع الأمر مع زوجته و الذهول يصفعه يُمنة ً و يسرى ، يكادُ يُقسم أنه أراد أن 
يُنهضها لولا أن الكلب كان قد قفز و انقضّ عليها و أخفاها في فمه ، هكذا استطاع تبرير الأمر لزوجته عندما سألته عن الطفلة ، و لمّا كفّت
زوجته عن البكاء كان قد فَهِمَ أن الصغيرة ماتت في فمّ الكلب ! .
دَخلَ مجدداً إلى المطبخ ، سحب درج السكاكين و لم يجد شيئاً . " إذاً كيف كنّا نأكل كل هذه السنوات من غير سكاكين ؟! .. لقد كانت مجرد 
إمرأة خائنة و صار لها أن تموت .
خطر له أنه فيما لم يجد زوجته في الشارع فلسوف يقتل اي شخص ٍ آخر ، ما دام أنه من غير الصعب أن تصادِفَ إنساناً خائناً أثناء عُبورك 
الطريق ! .
ارتدي معِطفه مُفرغاً ما في جيوبه من أوراق رسائل على ملاءة السرير ، و لم يتوقف تساقطها على الأرض إلا عندما وجد نفسه في الشارع.
لم يكن القمر عندئذ ٍ في السماء ، كانت فقط الشمس ، و إبطّ السماء الأزرق يمتدّ مع شعراته البيّض حول الشعلة المدوّرة الصفراء التي 
انطلقت تُمخر تحت سفينة من العَرق . كم أسعده المنظر لكنه فَطِنَ إلى أن مدّة وقوفه أمام الشارع المزدحّم قد طالت كثيراً ، نظرَ إلى معصمه
فلم يجد ساعة و أزعجه إفساح السيّارات لشجرة كانت تمرّ إلى الرصيف المُقابل و لم تُفسحْ له إنما تدفّقت من جديد كالدماء ..
عند المنعطف الأخير لوجْهَتِه عثر على عمود إنارة ، أسندَ ظهره عليه هنيّهات ٍ ليلتقطَ أنفاسه ، التي انطلقت بدورها كتنهيدات ٍ مُتحسّرة
علام شاهده من حمام ٍ يبني أعشاشه على خطوط الضغط العالي . قرر بينها و بين نفسه أن الوقت قد حان لكي يستقيّل من عمله كساعي 
بريد ، يبدأ عمله ما بعد صلاة العِشاء و يبقى طيلة النهار يستغرِب عن سبب عدم إحتواء صندوق الرسائل على أية واحدة ، تاركاً المجال
للحمام ليُجدد مجده كحمام ٍ زاجل و لو قليلاً .
ألتقطَ أنفاسه بصعوبة شديدة فوق البلاطة الأخيرة المجاورة لباب منزل الوالدين . كان يعتزّ تماماً بذاكرته القويّة التي توقّدتْ اليوم خصوصاً
بمعرفة أنه أولاً ساعي بريد و ثانياً اكتشافه للموقع الصحيح لمنزل والديه . كان الباب مفتوحاً كالعادة و أمه ترقد خلفه تصليّ على ركبتيّها 
، شدّ من أعصابه و بدأ يتذمّر من سهرة البارحة و سأل عن أبيه ، أشارت الأم أن الأب قد ذهب ليسلّم عكازتيه إلى المشفى صباحاً ثم توجه
مباشرة ً إلى المطار مُسافِراً كي يبحث عن عمل .
آلمه منظر العجوز كثيراً ، أرادَ تقبيلها ، فنزل على كوعيه كالكلب ، إلا أن العجوز دفعته بقوة في صدره و ندّت عنها كلمات غاضبة ..
-
لم يرد أبوك أن يكون مشلولاً بقيّة عمره فسافر ، لكنه لا يُريد أن يعود و يراك أعزباً و قد تجاوزتَ التسعين من عُمرك ! 
سأل نفسه : " ماذا يكون عنوان صندوق بريد أبيه يا تُرى ؟ "
عندما رَجِعَ كانت الشمس قد امّحت ، و وقف القمرُ مرتديّاً زي عناصر الشرطة و دويّ الصافرة ينطلق عاليّاً . أضاع وقتاً طويلاً في البحث
عن مصدر البكاء في حجرة نومه . كانت الزوجة لا تزال تفقِدُ الكثير من وزنها بين الملابس و الحاجيّات على رفّ الخزانة . تمدد على 
السرير ثم شعرَ بدنو أجله ، فلقد صُدِمَ اليوم مرة ً أخرى عندما أخبرته أمه أنه تجاوز التسعيّن عاماً . 
قُبيل منتصف الليل انتفضَ في الفراش كثيراً على أنه فقد روحه أخيراً ..
أطلّ الصباح ، ظهرت الشمس كأي يوم ٍ آخر ، زقزقت العصافير فوق أكفّ الجنائن ، و خرج الناس من منازلهم صامتين كالحجارة . لم
يكن أحدٌ في منزله حينئذ ٍ إلا هو ، وقف على رأس حفرة حاملاً رخامة ضخمة باردة بين ذراعيه ، ببراعة و حَذر ، نُقِشَ عليها اسمه و 
تاريخ الولادة ، على أنه لم يفته إرسال الكثير من الرسائل ، طمعاً ، من أن ينعيّه أحدهم و لو لمرة واحدة على الأقل ! .

Tuesday, March 27, 2012

طاؤوسٌ في الليل

 

2259189385_e8d8efc9fd

     حزن الطاؤوس يوماً ، و هو الذي أمدَ العمر اشتكى من قلّة الزائرين و فساد الذوق عند الناظرين ، و هؤلاء لم يكفوّا عن التطلّع إلى الأشجار بإعجاب ٍ و هزّ الورود ِ و تنشّقها ، ثم مناغاتهم للعصافير ِ و تقليدهم أصواتها ، و القرود ؟ مالذي يفتنهُم بها و يدفعهم للتسمّر أمام أقفاصها و إعلان الإنبهار ِ باللحم ِ الطريّ المشعرّ ؟. هو الطاؤوس الأزرق الأخضر الذهبي الرشيق ، خفيف الوطء شاعريَّ النظرة ِ و التخطّر ، يفرد أجنحته و يمدّ رأسه المعروف بتاجه ِ الفريد ، مَن مثلهُ بين الطيور ؟ ، أو قُلْ بين الحيوانات أجمع ، و لولا أنهُ كذلك يريدُ مَنْ ينظر إليه لقالَ بينهُ و بين نفسه .. لعلّهُ الأجملَ بين المخلوقات كافة ، لكن بقاءَ كل جميل ٍ مرهونٌ بالذينَ ينساقونَ وراء هالته ِ و ملكوته . و هو ، أي الطاؤوس ، لا يزال يعتقد بأنه جميلٌ و أن كل البِرك التي تتشكل بفعل المطر المتساقط في قفصه المكشوف لا تكذب . إلا أنهُ ملّ نفسه و صار يشتهي أحداً يمرُّ به أكثر من ذي قبل ، فيحدّثه عن زُرقة السماء ِ في جناحيه و خضرة السهول على قامته ، و أي قدر ٍ سيكون عليه و أي شأن ، لو أنهُ في قفص قصر ٍ مُنيف أو إيوان ِ رجل ٍ ذي حسب ٍ عريف ..

تمرُّ به الأيام متكاسلة فاقدة ً لونها ، و ريشهُ الذي على جانبيه أضحى محنة ً كورق الشجر الآيل لأن يُكتَ و يُخسر . أما فكرة أن يبقى هنا وسط الأشجر السخيفة و الضواري المتعجرفة و القرود الطائشة و الأزهار المزيفة ، فهو بلا شك خيارٌ مُجحف و حبلٌ طويل يجرُّ الشيخوخة إليه قبل الأوان ، مطوّقاً إليه بعُقد ٍ من الحِكمة و تكبيل ٍ يقضي بأن يرضى و ينسى . بيد أنهُ يُدرك أن قلبه قلب شاب و دمه ، لو أنهُ شُربَ على الريق لشفى أمراضاً كثيرة عند بني البشر . إنه مثل الشمس و القمر لا ثان ٍ لهُ ، و هو لا يذكُر متى استضافَ طاؤوساً معهُ في القفص ، و هل يا تُرى كان أجملَ منه ؟ أقدّرَ منه على الإغراء و التملّك ، ألينَ منه في القفز ِ و التسلّك ؟ . لا ، لن يظلّ حبيس الفرصة و أوقات الزيارة و العيادة في جنينة الحيوانات . سيخطط هروبه بنفسه و يبحث عن السهول و القُرى ، المدن و الشوارع و الجسور ، المنازل و الحُجرات ، الأزقة و الحواري و المحلّات . سيقتحم على الفقراء عُزلتهم و على الأغنياء خلوتهم ، و يصرخ في وجوههم سوء ذوقهم و خواء معرفتهم ، و أنهُ قد آثرَ المجيء إليهم و النزول عندهم كي لا يُضيعوا المزيد من أعمارهم بين الجرذان ِ و القرود .

استقرّ به الترحال في حقل ٍ على مشارف قرية ٍ مملوءة بالرجال ، خلقٌ كثير و عيونٌ كبيرة واسعة . العبادُ هنا يخرجونَ للزراعة و الصيد منذ الفجر حتى يأفلَ النهار و ينسدلَ الليل . بَدتْ الحرية له شيءٌ بارع ، فأن يُحدد الجميل حقهُ في الجمال و حصته من النور و الظلال ، لهُ سرُ العبقرية و الخيال ، و لذا لا حق لأحد ٍ بأن يعترضَ أو يناقش أو يبادرَ بالسؤال .

إن أحداً لا يفهمُ حساسيته و رفاهه ِ و رومانسيته ، فإنهُ حتى لا يحتاج لأن ينطقَ بحرف ٍ واحد أو يفتعلَ أو يتصنّع ، سبحانَ الذي خلقه و سوّاه ، مخلوقٌ منسجمٌ مع نفسه ، قطرةُ الدم ِ في لحمه أصيلةٌ نقيّة لم يخالطها دمٌ آخر مثلما هو الحال عند الحمير ِ و الجحوش . ذكيٌ عارف يكتنهُ ببصيرته مصائر الأمور و حوادث العصور ، محللٌ يُتقن حلّ الشيفرة و الكلمات المتقاطعة ، و لذلك ، فإن شعوراً بالتآمر عليه و حياكة المكائد في حقه لا يلبثُ أن يفتقَ في قلبه جاعلاً إياهُ بين الحين و الآخر متربّصاً متوجّساً و أحياناً أقل منفعلاً متوفّزاً متكّدراً ..

لم يلقَ قي القرية سوى صوت الكلاب الضالّة ، غير أنهُ لم ييأس إلى أن رماهُ الصبية بالحجارة ، غير أنه لم ييأس إلى أن رفعَ عليه أحد الفلاحيين طوريّة ضخمة ، غير أنه لم ييأس إلى أن اشتبكَ مع بعض الحمام البلديّ البشع بالكلام على إحدى الأشجار في مقدمة القرية ، و قد سمعَ من الحمام عبارات ٍ نابية سوقيّة ، و حينها فقط يأسَ و أعلنَ أنهُ بصدد العودة إلى القفص ..

و في الطريق عثرَ على خُمّ للدجاج ، و راودهُ منظرُ الدجاجات الضعيفات . مالذي لديّهُن غير البيض ِ و الرقود ؟ ، و ديكّهن ذلك الأجرب المختال ذو اللون الأزرق الأرضيّ ؟ .

بعثرتهُ النشوة و أسكرته اللحظة ، فإنكَ إذْ تلقاهُ نهاراً يُعرّض ريشهُ على الضياء المُنسكب و ليلاً يقف في واجهة المصباح الكبير الكشّاف ، و الذي يُشعل لأجل أن تشعر الدجاجات بالنهار يتواصل فلا يراودنَ البيض و الإنتاج . و على الضوء أعادَ الطاؤوس اكتشافَ نفسه ، فكم هو مرحٌ و خفيفُ ظلّ ، و كم من الأيام أنفقَ في القفص واهماً أنهُ جميلٌ و متّقِد ؟ و كم من الأيام أنفقَ في صدى الكلاب الضالّة و مرمى أفعال الصبية السائبة ؟ .. آه ، كم سيكون فخوراً بنفسه الآن ن عندما يشاهدهُ الناس و قد تلألأ ريشه و بانَ الحقيقيُّ من الخفيف المُضلل .

قلَّ عدد الصيصان الجديدة ، و اتفقَ أن كان الناس في مجاعة و أحوال مُزرية ٍ ساغبة . قالتْ إحدى الدجاجات أن الرجال أكلوا الصيصان بالريش نيئة ، و أنهم شربوا البيض شُرباً ، و لم يُبقوا إلا على عدد ٍ قليل من الدجاجات قُدِّرَ لها أن تكونَ واحدة ً منهُن لكي تشهد و تحضُرَ ثم تروي إذا ما عاشتْ و صارتْ جَدة .

* * * * *

     لو أن الطاؤوس أدركَ منذ البداية أنه طيرٌ مثله مثل غيره ، و أن الجمال قبسٌ يسكنهُ و يسرَحهُ ، و أن ذلك كلهُ لا يبرر تعذُّر الجمال بالهيمنة و السلطة مهما بلغَ و ذرا . لو أن الطاؤوس عرِفَ بأن السكاكين ستمتد إليه ِ في النهاية ، لكانَ وفّر عليّ كل هذا الحبرْ .. و وفّرَ عليّ الكتابة .

24\9\2011

 

Monday, March 26, 2012

الموءودة



baby_Melanie.218191424

ينزلُ من على سفح الجبل سيلُ ينبوع ٍ صغير . يغذيّ الزهر الجبليّ و العشب الذي نما من غير هدف ٍ واضح و عصفور ٍ يكاد يحطّ فيطير . يخلل ماءه الصافي العَذب ضوءٌ ذهبي لامع ،
ترسله الشمس التي تسلّقتْ كتف السماء مثل الطفل ، كرة من خيوط لا يُعرف لها عدد أو نهاية . و مما يسكن في أذن الطبيعة خريرٌ يتسربلُ في ثنايا الروح باعثاً الهدوء و السَكينة ، 
يشطفُ جروحاً خلّفها الزمانُ على الحجر و يفيض حينما يهطل المطر . لكنه يبقى قطرات ٍ تتعلقُ بأفواه المغاور و كوى الكهوف ينزّ من على الهوابط و الصواعد .. أسنانُ الكهوف .
تمتدُ الحشائش و تتفرق بينها الأشواك و الأعشاب الطبيّة و المُخدِرّة . خضراء صفراء و بنيّة كامدة . قليلٌ منها له اسم عند الناس و أكثرها بلا اسم أو عنوان . أما الأزهار بسيقانها 
الضعيفة الرقيقة ، فيشّف عن الدحنون لونٌ أحمر حارق ، و الياسمين البريّ بياض الثلج و عذوبة سماء صافية . فلقد حلّ الربيع و عادتْ أسراب الطيور تُطعِّم طيور الجبل التي لا 
تُغادِر بخلايا تسري فيها دماء الهِجرة و الغُربة . لكن ثلاثة عصافير ترحل ، رابِعُها يبقى .. و تستمر الحكاية كل ربيع .

تركَ كفّه الكبيرة تنزلق فوق نتوءات الحائط النافرة . ثم استرق السمع مجدداً . كان القمر واقفاً في صعيد الأفق ، أبيضاً مستديراً و لا نور سواه في الظلام المتكاثف . جعل يدوّر 
على عقبيه بنفاد صبر ، و هو ينظر بتوجّس من طرف عينه إلى الباب المشقوق قليلاً . و خيال يكاد يتلاشى لضوء مصباح واقع على أرض العتبة . أدخل كفّه في جيب صُدّاره باحثاً 
عن علبة السجائر الخاليّة إلا من سيجارة واحدة ، أشعلها و مضى ينفث دخانها في الهواء شاعراً به حلقات في ثنايا صدره ، و في الهواء يتداخل نثارها الضبابيّ بالألق الشاحب 
للقمر . ارتدّ بخطاه مجدداً و ظهره إلى ناحية الباب . صرصار الليل لا ينفكّ يأزّ برتابة . سمع صوت شيء يتفتت داس عليه . و فجأة ً . انطلق صراخ من الداخل . راح يعدو على أثره ، دافعاً الباب . و إذا بها أمامه ممددة ً على الشرشف الخفيف ، منفرجة الفخذين ، متدليّة الذراعين بإرهاق ، حاسرة الثوب إلى وسطها . و ركبتيها منثنيتيّن إلى جسدها . 
أما شعرها ، فقد تناثر فوق الوسادة ، و إحدى كفيّها تغطيّ وجهها ، راقدة ً دون حِراك . و إلى جانبها ، ألفى الداية العجوز حاملة ً بين يديها الطفل ، تقلّبه ، رافعة ً إياه من قدميه 
، رأساً على عقب ، لاطمة ً إياه بالكفّ التي تحمل الخَاتم . كانت تحاول جاهدة ً أن تفتح في جوفه مجرى النَفس . و لذا استمّرت بالضرب على ظهر الطفل الصغير . و الأخير يزفرُ 
بإنفعال ، كاشفاً عن ظهر كقطعة لحم طريّة ، يتوسطها نتوءات عموده الفقري ، ذكّرته بنتوءات الحائط لأول وهلة . فوق آليّة صغيرة مكوّرة مشطورة إلى نصفين . و قد تلطّخ اللحم
الضعيف بالدم . تقدّم من الطفل المعلّق بين ذراعي الدايّة العجوز بصمت ، و قدماه تعبران الشرشف المبسوط فوق الأرض الخشنة . انفتلَ القلق داخله يتلوّى على رنّات إيقاع مجهول 
، شاعراً ببرودة تسري في أطرافه ، و عَرقاً تصفّد لكنه لا يجري إلى مستقر . مرقَ ببصره فوق الجسد ، الذي لم تتضح له معالمه المميّزة حينما نظر إليه أول الأمر من الخلف . ظلّ
يهتزّ ، يقفل عينيّه و يشدّ أصابعه البراعم .


عُقد الأصابع تتشنج و تنعقف إلى الداخل . خطى بقدمه نحو العجوز المتربّعة و اختطف الجسم متلهفاً ، ممرراً ما بين الفخذين على ضوء المصباح الخافت . ظلّ موجهاً الضوء 
إلى تلك البقعة مدّة من الزمن . كفّ الطفل خلالها عن البكاء . و لمّا لم يعد هنالك مجالٌ للشك و قد اتضحتْ له الصورة أخيراً ، حمله ثانيّة ً إلى العجوز و انحنى بجسده أقرب إلى
زوجته ، الراقدة على ظهرها ، و التي لم تُحرّك ساكناً حتى اللحظة . أرجح ساقه و تركها تندفع بمشطها الكبير الذي غطّاه حذاء جلدي سميك ، مرتطمة ً بجنبها المكشوف و 
ساقيّها المُدمتين . ثم نبح ..

-
يا بنت الكلب . أنا أتعب طيلة النهار في الأرض و أنت ِ تأتي لي بالبنات ؟! ما حاجتي إليهن ؟ قلتُ على الأقل .. ولد يستر عليّ في آخر هذا العمر 
.
يفلح معي الأرض و يحرثها . لكن عَبس ! . أمي قالت لي .. شكلها يا عبدْ ولاّدة بنات . أنا لم أصدّق . و هذه آخرتها يا .. 

و تراجع بجذعه إلى الوراء ، مطوّحاً بقدمه اليمنى ، مستنداً بالأخرى على أرض الحجرة . لكن العجوز اعترضته ، مرتميّة ً على قدميه ..

-
اتق ِ الله يا رجل . يعني لم يخطر ببالك سكونها و صمتها حتى الآن ؟ .. إنها ميتة ، ماتت و هي تضع لك هذه العروس . نزل العرق من وجهها ، و 
اللعاب من شفّتها و انقطع نَفسها . ضحّتْ بنفسها و رمتْ بروحها في سبيل هذه الصغيرة البائسة يتيمة الأم ..

-
هذه بنت ! أنت واعيّة ؟ في المستقبل تكبر و يصير شباب الضيعة يصبحوّا و يمسوّا من أمام بيتي . يا سلام ! جسمها لوحده سوف يتعبها ، و يا خوفي ..

قاطعته و الكلمات تكاد تقفز من على شفتيّها ..

-
و افرضْ أنها بنت يا زلمة . عندك أنا مثلاً . صحيح أرملة و عندي كوم لحم في الدار . لكن الله أعلم . أقوم من الصبح مثل القردة و أدور من دار لدار 
أتشمم الأخبار . فلانة تزوجت يوم ستة الشهر ، أسجّل اسمها في الدفتر . والدي الله يرحمه ، قال هذه البنت تتعلم . كان طيّب و كريم معنا نحن البنات .
بالله عليك . عمركْ سمعتْ عني شيء عاطل ؟ بالشيب الذي في رأسك . الشغل الذي أقوم به يقدر عليه خمسة رجال من أهل الضيعة ؟ قل ؟ مالك ساكتْ 
..
انطق ْ .

-
و أنا ما لذي يضمنْ لي أن مكبرها مثلك ؟ هل نسيتي حكاية بنت الخباز الشهر الفائت ؟ خذي امسكي ، الله يقطع هذا الجنس . أنا بحبحتْ الأجرة . 
مُريّ على اللحام و خذي لهم لحم . قال عروس قال !

و ضغط كفّها على صرّة صغيرة من المال وضعها في يدها ..

أشاحتْ بيدها راكضة ً نحو العتبة بخطى متعثرة ، و قد اخترقتْ العتمة بجذعها الضعيف . و لمّا خرج يرمي بعقب السيجارة الذي كان لا يزال عالق بين أصبعيه . وجدها تَركي
بساعدها على الحائط ، و رأسها الملفوف بشال أبيض قد انحنى . و على ضوء القمر ، رأى في عينيّها احتقان .. و بقايا دمع .



ضربَ بالفأس ضربتيّن قويتيّن . ثم أمرّ بكفّه على جبهته المعرِّقة . أصلح من وضع القمباز و حاول أن يسدّ خياشيم أنفه حيال الغبار المتطاير . كان التابوت المصنوع 
من خشب الجوز يتوسّد الأحجار و الأعشاب . سيدفن الأم الميتة أولاً ثم يتفرّغ للصغيرة ، التي لا تني تُناغي و تُقلّب رأسها بعينيه المغمضتين ، و شفتيّها حول لسانها ،
في لفّة في ظل شجرة قريبة . مساءً ، بعد أن يمرّ آخر العمال من الطريق الترابيّ . يزرعها في الأرض و يهيّل عليها التراب تدريجيّاً . كما فعل أبوه من قبل . كان 
يفوق عمر أخته الرضيعة بسنوات . و ذات يوم و أمه لا تزال تعاني من أثار المخاض على جسدها . صعد أبوه عالياً و الرضيعة بين كفيّه . راقبه خفيّة ً ، و لم يمض ِ 
وقتٌ طويل ..

تلافى أرض التينة لأنها تشرّش بجذرها في الأعماق . لذا قرر أن يدفن الزوجة في المنطقة الخاليّة الضيّقة الباقيّة من الأرض . تأرجح الفأس مجدداً فوق ذراعه و على 
مستوى رأسه . ركّز قدميّه جيداً على الأرض و ضرب . اتسعتْ النقطة لتصيرَ دائرة ، فدائرة أكبر و أخيراً حفرة بيضويّة مُقعّرة . أردفَ في نفسه قائلاً :
"
عجباً . الوحيدة التي إذا أخذنا منها زادتْ .. هي الحفرة "

أخرجَ من كيّس خيش جلبه معه طوريّة . أخرج بها التراب مُوسِعاً الحُفرة . و بعد أن طرح الجثّة المكفّنة ، و التي لم يكن هنالك من أحد ٍ غيره ليحضرَ مراسم دفنها .
و بعد أن أهال فوقها التراب . رشّ على القبر الماء و أوسده رخامة كشاهد يدل على فلانة بنت فلان ، في تاريخ كذا ، بلا كنيّة كأم فلانة . و حانتْ منه نظرة إلى اللفة
البيضاء أسفل الشجرة ، على بُعد أمتار قليلة . لم يكف منذ البارحة عن التفكيّر بها . برأسها الأقرع و جسدها الذي كالولد . و منظر بيت الأنوثة العاري تحت ضوء
المصباح . أطلّ فوقها بإنحناءة ، حجبتْ السماء و احتلّتْ مجال الرؤية ، بعينيّن مُكهفتيّن و فَم ٍ مُزبِدْ . بشفتيّن عريضتيّن مزمومتيّن راجفتيّن و وجه ٍ مُتعب غير حليق
، تهدّلتْ من على استدارته لحيّة قصيرة . كانت الصغيرة تنمنم بشفتيّها الرقيقتيّن مُخرِجة ً لساناً ورديّاً بين الفينة و الأخرى . فرجّح أنها تَنشدُ الرضاع . رفع بصره
نحو السماء و جفناه في أزيز ٍ مضطرب . سُمِعَ من بعيد كأنه يتكلم مع أحدهم بصوت ٍ متهدّج ، ارتفعتْ وتيرته شيئاً فشيئاً ، و هو يحمل اللفة فوق ذراعه الأيمن و 
الكيس الخيش في اليُسرى .. و يهمّ بالوقوف معتدلاً عن انحناءته .


شيئاً فشيئاً تُعتِّم الدنيا ، ليحلّ الظلام النهائي قبل أن يقشعه ضوء نهار اليوم التالي . استدعى الداية ، التي انتحتْ بالرضيعة و قد انشغلتْ بفكّ أزرار ثوبها . خرج ليدخّن عند 
العتبة . سينتظر كي يبتلع الطريق العجوز ثم يمضيّ باللفة و الكيس مجدداً . سيحدد موضع الدفن و يضرب ضربتين لا أكثر . يجمع حولها التراب بتأن ٍ . لن يُبالي بصراخها
، أو أنه سينهض حالاً ليبحث عن قطن يسدّ به أذنيّه . لكن ماذا عن النظرات ؟ وجهها تحت التراب ؟ . الدايّة قالت .. غداً تكبر و تصير عروس .

"
هه . و هذه الأرض ؟ أتركها للغريب يستفيّد منها بعدي ؟ "

رمى بعقب السيجارة و نادى بأعلى صوته :

"
شبعتْ الهانم ؟ "

انشقّ الباب عن وجه الدايّة المتألم ..

-
المسكينة عضعضتْ صدري من الجوع . الحقّ عليّ . لازم أخذتها معي بمجرد ما وضعتْها أمها ..

قال في نفسه بخبث :

"
رح تندفنْ و حليب صدرك عالق في فمها "

-
محتاج شيء ثاني يا أخويّ ؟ 

سها عن وجودها . أخذتْ يداه تعبثان بمحتويّات كيّس الخيش ..

-
قلتْ يا أخويّ . أستأذنك و من الصبح ..

-
نعم ؟ .. يا أختي الله يسهّل أمرك . الله معك .

و بعد وقفة قصيرة . أعطتْ له فيها العجوز ظهرها ..

-
خذي ، أنا أتعبتك معيّ ..

دارتْ على عقبيّها ثم استقرّتْ نظراتها على أصابعه ..

-
تريد مني أن أبيع حليبي يا عَبد ؟ ضُبّ فلوسك .. يا عيب على الرجال ! .
¤ ¤ ¤

اللفّة فوق الذراع اليمين . و كيس الخيش ، الذي بدا أثقل الآن ، في اليد اليُسرى . أقنع العجوز بقبول المال . قال لها : " مَن سيحنيّ العروس غيرك ؟ " ، فرِحتْ العجوز . و بعدما 
غيّبها الطريق . دخل الحجرة ، فأمسكَ بالرضيعة مُيمماً وجهه شطر وجهته . مشى . أحسّ بالنسائم الربيعيّة العَذبة فوق خّدّه . سمع أصوات الطيور و هي تجوب المساء الهادىء .
لم يكن الطريق يضيئه إلا القمر . سار في الظلام الدامس . تعثّر ، ترنّح . سقطتْ قدماه في حُفر الطريق . لكنه اعتدل و تمالك نفسه و اتزانه . مال ثانيّة ً تحت وطأة كيس الخيش 
الثقيل . و على مقربة من قبر الزوجة ، بدا كمن يجرّ نفسه بصعوبة . ضربَ ضربتيّن في الأرض من فأسه . و بطرف عينه ، زوى بنظره إلى اللفة الموضوعة فوق قبر الأم .


فثلّث بضربة فأس ٍ جديدة ، توقّف على أثرها ليأخذ نَفس هواء . 

عّبّ بصدره من الهواء الربيعيّ ، و أفلتتْ منه تنهيدة . حمل الرضيعة بين كفيّه بعد أن جردّها من لفّتها . و على ضوء القمر . ركع على ركبتيّه ، و كفّاه تحيطان باللحم الطريّ . كانت 
لا تزال تحرّك بشفتيّها و رأسها . بكفيّها اللتيّن كورق الكَرمة وعينيّها المُغمضتين . حرّك جسمها فوق التراب ، فازدادتْ حركة يديّها و قدميّها . رفعها بمحاذاة وجهه . كانت الآن بلا 
ملامح واضحة . و قبل أن يدفعها إلى الحفرة مرة ً و إلى الأبد . طالتْ كفّها لحيته القصيرة المُشعثة . أحسّ بجلده يحكه ، و خدر اللمسات الضئيلة تسريّ إلى ذقنه ، كأنها تريد أن تَنفِض 
الغبار الذي لوّث شعرها . لم تبك ِ . كان وجهها صافيّاً وضّاءاً مثل القمر . ارتعش فجأة ً ، شادّاً إياها نحو صدره . بلحمها الطريّ المكشوف . و بدأ بالنشيجْ ..