لفّ عروة القميص الأخيرة حول الزِر ، و وجد نفسه أمام باب الشارع مباشرة ً . أهال نفسه على درجات السلم الواقعة قريباً من البَسطة ، فيما كانت أصوات الصبية و بائعي الساعة الواحدة تمتزج جارحة ً غير مفهومة . بسط مِشط قدمه إلى الأمام مرتكزاً على ركبة ساقه الأخرى منشغلاً بربط خيوط الحذاء ، و لمّا رفع رأسه أطلق شتيمة صادفتها عين خالته ، و هذه لم تبال كثيراً أو بالأحرى لم تود إشعاره بالذنب قدر ما كانت تود معرفة سبب هذه الشتيمة ، لكن ابن أختها أحنى رأسه فوق كفها المتخشبّة ذات الرائحة الصابونية و ابتلعه الشارع كأنه شبح في وضح النهار هي تدرك تماماً أنه مغتاظ منذ قرابة أسبوع بسبب الرسالة التي لم تصل عبر الإذاعة مع أنه لا يزال مُصرّ أن والدته تقصد الخميس الفائت وليس أي خميس آخر . و المشكلة أن الرسالة التي وصلت مُهترئة ، من كثرة ما عُبث بها ، بخط مائل متشابك لم يَرد فيها أي خميس تقصده أم جميل ؟..
كان التاريخ إما سقط سهواً أو تعمّد أحد المخربين محيه ، و كذلك لم يظهر تحت أبخرة السماور الساخن . أما في الخميس الذي اعقب وصول الرسالة ، كان موعد تحقق الحُلم بالنسبة لجميل ،
الذي لم يسمع صوت أمه من عشرين سنة عندما تفرّقا على إثر أحداث النكبة . و منذ فترة وجيزة فقط استدل إلى معرفة عنوانها في الأرض المحتلة عبر تاجر كان يعرف والده الشهيد " حسن معروف " .
و كم تاق جميل إلى سماع صوت أمه ، على أنه كان يقول لخالته : صوتك يشبه أمي لكنك لست أمي و بيتك وطني لكنه ليس فلسطين ." جلس الخميس الماضي يُرهف السمع إلى سمّاعة الراديو المخشخشة ، لكن رسالة نداء باسمه لم تصل . على الفور اعتقد أنه سها أو تاه عن الصوت .. فأي صوت ٍ يبقى كما هو بعد عشرين عاماً ؟!
و لم يكن أمامه من حل سوى مراجعة الإذاعة في العاصمة عسى أن يجد فيها ذلك الاسم التائه الجميل . وقفتْ الخالة أمام الباب المفتوح على الشارع و قد ردّت السلام على أكثر من جارة صادف مرورهن الطريق في تلك اللحظات ، و لم تجد بُداً من البقاء بعد ذلك ، ما دام أنه لم يعُد يظهر أمام حادي ناظريها ، إضافة ً إلى سريان رعشة خريفية باردة تحت أشعة الشمس الصفراء المشتتة ، فسحبت المزلاج و دلفت تتابع عملها لم يمض ِ الكثير من الوقت حتى ألفى نفسه على مقعد جلدي أمام مكتب الموظفة المسؤولة عن الأرشيف في الإذاعة . يُذكر أن الغرفة ليست بالكبيرة و لا الصغيرة ، حاسرة البلاط و على الجِدار لوحة قديمة بإطار صدء . عند وصوله لم يجد أحداً ممن عانوا مثل هذا السُهاد طيلة أسبوع عن اسم ضائع في زاوية الرسائل الصوتية من أهالي الأراضي المُحتلة . و قد زاد هذا الأمر من وطأة القلق داخله و للمرة الثانية يعتذر من الموظفة طالباً منديل ورقي يمسح به جبينه ، لكنه في الحقيقة يُريد إشعارها بالاوعي بضرورة الاستعجال للدخول إلى مراقب الأرشيف في الحُجرة المجاورة ذات الباب الموصود منذ وصل . لم يكن يحمل ساعة ً في يده ، و ساعة الجِدار منزوعة العقارب كطفل ٍ تسوست أسنانه الأمامية فاضطر الطبيب إلى قلعها . اكتفتْ الموظفة بطمئنة جميل بقرب وقت دخوله و إتمام مقصده . و هذا ما حدث بالفعل أخيراً حيث انسحب من الباب الضيّق رجل سمين بشارب فاحم خشن و قد اضطر إلى اتخاذ المنحى العرضي كي يتمكن من العبور مُشمراً عن زنديه الضخمين المُشعرين ، و انكشف لأول مرة صورة الأثاث الأنيق غي الحُجرة التالية بورق جدار أصفر هادىء و سجاد سُكري متناسق إلى حد بعيد و لون الجدار و السقف ، و لم يُغفل وجود ثلاجة ماء و منضدة . و في نهاية الحُجرة كان جهاز التحكّم الضخم و إلى جانبه الدفاتر الممجلّدة مُغبرة و غير مغبرة . و لمح أيضاً مراقب الأرشيف ، الذي تبيّن فيما بعد أن اسمه أبو إسماعيل ، رجل في الخمسين من عمره شاربيه شائبتين و شفاه مُفلطحة . لا يظهر في وجهه أي شيء يمكن أن يمورَ داخله . كان أبو إسماعيل جالساً أمام دولاب عريض باحثاً عن شيء ما ، لكن من حركة يديه السريعة و المُضطربة يبدو هذا الشيء مُهماً و شاذاً في وقت ٍ واحد كي يأخذ منه كل ذاك المأخذ .و لمّا اقترب منه أكثر قال :
" أريد أن أعرف إذا كانت الرسالة وصلت أم لا ؟"
- أي رسالة ؟! ، و قد غرز عينيه في عيني جميل مُغايراً ملامحه من الهدوء إلى ملامح وحش جائع
- رسالة صوتية من سيدة اسمها ... ، و لم يكد يذكر حرف من اسمها حتى لمح رأس الرجل الذي رآه قبل قليل و في يده سجّادة الصلاة و لقد سمعه يسأل أبو إسماعيل عن موقع القِبلة .
عضّ جميل على ناجده من الغيظ و الشعور بالعرق النزِقْ المُبتّل من فوديه كخيطين مُتقطعيّن .
بخصوص رسالة وصلت من أمي , السيدة " سليمة نادر . -
- آ .. يعني لم يظهر نداؤها في فقرة الرسائل ؟
ليس بالضبط .. لا أعرف ماذا أقول ؟ ، ربما ظهرتْ ..
- التاريخ ؟ .
و مدّ كفه المعرورقة إلى دفتر غير مُغبّر ممرراً أصبعه على الأسماء ، و إذ ينتهي من صفحة يعود بإبهامه على مقدمّة لسانه ، فالصفحة التالية مضى قُرابة خمس عشر دقيقة ، لم يظهر فيها أي جديد ، أسماء كثيرة و الإسم المُبهم في الدفتر الجديد كان يصعُب على أبو إسماعيل و أمثاله فهم ماذا يعني . كان جميل قد لحظ أن أبو عدنان قد انهى أداء الصلاة ساحباً لنفسه كرسياً أمام مِنضدة ، كانت قد ظهرت كشيء غير مفهوم في غرفة رسميّة ، خاصة ً و أن ما عليها ليس أوراق أو لوازم الوظيفة ، إنما رقعة شطرنج ، و إذ انهى أبو عدنان الصلاة جلس قُرابة الرقعة يصفّ أحجارها و هو يلعق شفتيه بلسانه بشهوة .. " يا أبو إسماعيل ألحقنا بكأسي شاي ندفّىء بهما عظامنا .. "
ضرب أبو إسماعيل دفيّ الدفتر ببعضهما البعض و هبّ واقفاً ، ثم قال : " لا أمل ! .. عملنا الذي علينا لكن .. "
- لكن ؟ .. أرجوك ، أنا قدمتُ من مكان ٍ بعيد و لا أريد ..
- لا تريد ؟ و ماذا يطلع في يدي ؟!
و ببلاهة نظر جميل إلى كفّ أبو إسماعيل ، الذي انتبه لنظرات الشاب ، فسحب كفه إلى جيب سترته الرمادية كأنه طالب في الإبتدائيّة هاله لسع العصا و هي تترنح في الهواء قبل أن تهوي مُعلنة ً رنيناً مُمزقاً اسمع ورائنا أشغال ! , قال ذلك رامياً بجميل خلفه حذاء المنضدة ..
- يا أبو إسماعيل .. الساعة ما زالت الثالثة .. ساعد الشاب و حضّر لنا كاستين شاي .. ثم ... ، إلا إذا كنتَ مستعجلاً على الخسارة .. و انفجر بالضحك .
و لأول مرة يعرف جميل الوقت .. قال بعفويّة مخاطباً الموظف أبو إسماعيل :
".. أقبّل شواربك "
و يبدو أن قضيّة الشارب كانت تعني الكرامة و الشرف بالنسبة لأبو إسماعيل فمسّد بأصبعيه عليهما و قال :
لكن .. لا يوجد شيء بيدي الآن .. اصبر يا ابني اصبر ."
و لم يتوان أبو عدنان عن المُزايدة في الحديث :
- إذاً .. ما دام أنك مسكت شاربيك , ما رأيك بعقد رهان بسيط مفاده : إذا فزت حضرتك تعاود البحث مرة ً أخرى لصالح هذا الشاب أما إذا ..
و عندئذ ٍ غمز أبو عدنان جميل كأنه صديق قديم .
صاح أبو إسماعيل :
أما ؟! .. لماذا ؟ .. منْ قال أنني سأخسر أصلاً ؟! ، و حياة شواربي ! -
.. إذاً اتفقنا ؟ . قال أبو عدنان -
بسيطة .. -
بدأ كل من الرجلين بصفّ حجارته و ترتبيها في مواقعها بكل هدوء . بعد مُضي ستين دقيقة ( كما هو مُتفق عليه ) . كان جو الغرفة مُشبّعاً بالدخان ، و كذلك الشيء الوحيد الصامد على الطاولة هو ما تبقى من قِطع الشطرنج ، فلا منفضة السجائر اتسعتْ للأعقاب العَفِنة ، و لا الرجلين المتميزيّن غضباً .
لكن كما تبدّا لجميل .. لم يكن هنالك فائز بين الاثنين ، إلا أن العجيب في الأمر .. وجود خاسر وحيد ، انسحبَ بعدها مغادراً.
تلقفته الشوارع الممطرة حزيناً مُحبطاً ينزفُ حنقاً كالصمغ ، و لا يجد في رأسه سوى اللجوء إلى رصيف يدفنُ فيه أحاسيسه المنسوفة .
في السادسة إلا عشر دقائق وصل البيت ، أطرق قليلاً مُعايناً وجود ضيوف عند خالته ، لكن لا يوجد أحد .
- لماذا تأخرت ؟ سألت الخالة .
. كنت أبحث عن محل يبيع ساعات يد بأسعار مناسبة -
. و هل وجدت ؟ -
كلا .. هل زارنا أحد ؟ -
- مثل منْ ؟
. - لا .. لا شيء
. لقد حضّرتُ لك سماوراً كبيراً .. فلم يتبقَ الكثير على موعد البرنامج -
- أي برنامج ؟
- الرسائل
. - آ .. نعم نعم .. ما هذا ؟ كيف لم أنتبه أن اليوم خميس ؟
و اندفع جذلاً نحو الراديو.
حوالي السابعة كان صوت واهن ينبعثُ من سمّاعة الراديو ، يبحثُ عن ولد ٍ عمره ست سنوات في عام 1948 و المنادي امرأة من قضا يافا اسمها " سليمة نادر الغطّاس " ، فيما
كانت عضلات وجه جميل مُرتخيّة و أنفاسه تتابع بإنتظام غائباً عن الوعي في غمرة النوم ، و لا يزال الصندوق المُخشخش ينادي بين يديه ..