أيتامٌ في الخارج .
يا ويلي ! ، حُزني غرغرَ في الحلق و انثالَ في الريق ، لما سمعتهم يرطنونَ بالعربيةِ و يستكينونَ إليِّ لأجلَ أن أنفحهَم ليرةٍ أو ليرتين .
- من أين جِئتم ؟ .
و أشاروا خلفهم و رأيتُ أصابعهم الصغيرة تحلّقُ نحو البعيد .. نحو بلادي .
- سكنا المخيم الحدودي لشهرين ثم ها أنتِ تشاهديننا مُشرّدين ضائعين ، نلقّط رزقنا بالحلال .
و تكرر في أذني صوتُ المأذون و هو يشدد على كلمة حلال بينما يزوّجني إلى عارف و يدُ أبي بيده .
رغم الدمار الذي حلّ ببلادي و نزوح اللاجئين ، إلا أن أبي أصرَّ على قيامنا برحلة شهر عَسل . أردتُ الإعتراض ، لوّحتُ بكفي أمامه ، لكنهُ نهَرني و قطّب بين حاجبيه و أخبرني بأن لا رجعة و أنهُ من الأفضل وضع كل شيء خلفي و السعي نحو صفحةٍ جديدة في الحياة .
- يا بنتي الأمرُ ليسَ في خيارنا ، إذْ كنا منعنا الحرب و جنّبنا بلادنا الخراب منذ زمن .
بعد أسبوع حملني عارف إلى أسطنبول . لم تكن المدينة غريبةٌ علي فقد درستُ فيها مرحلة إعداد رسالتي في الماجستير و أجيدُ نواحي اللغة المحلية فأقدِّمُ العون إلى عارف الذي يجهلها تماماً .
جُبنا شوارع المدينة و زرنا أهمَّ المحلات . أنفقنا مالاً يزيدُ عن كفايتنا ، و طعمنا من حلويات أسطنبول التي تذوبُ في الفمِ ، و تتحول إلى سكّر ، حتى الشبع . يُخيّلُ لي أن عارف تمنّى لو كانَ تركياً إذْ أظنهُ يفتح مصنع خياطة كبير مثل الذي يملكهُ في حلب ، و سيدرُّ كما يحسبها مبالغاً طائلة ترفعهُ إلى مستوى الباشوات .
- أنا و أنتَ نبتتان عربيتان و مكاننا وراء الحدود .
لم يبتسم ، و ظلّ صامتاً لهنيهة ، بينما ندورُ بين المقاعد المطلة على الشارع الرئيسي و التي تعودُ إلى مطعم مشويّات معروف .
دلّني إلى طاولة شاغرة موجودة عند عطفة الرصيف و هرولتُ خلفهُ بصورةٍ مُضحكة . قلّبتُ قائمة الأطعمة و المشروبات على عَجل ثم شرحتُ لعارف كيف يُعِد الأتراك نوعاً معيناً من السَمك ، يتبّلونه و يضعونه في الفرن حتى يحترق .
- سمك أبو شوارب . و أضفتُ بمكرٍ : مثل الذي يحصل .. فالشوارب رمزُ الشَرف و تحمّل المسؤولية .
- متى تفكيّنَ ألغازك ؟ ، ألا بطّلتِ عن أنصاف الكلمات . ماذا جرى لكِ ؟ .. كأنما تحدّثينَ نفسكِ و لا تريدينَ للآخرين أن يفهموا . شوارب و سمك و بطيخ ! و مالذي يحصلُ عندنا ؟ ، الذي حدث في الثورة الفرنسية يفوق ذلك بمراحل .
و تركتهُ يعيد ذات القصة و يقارننا بغيرنا .
- اسمع . استعدْ التاريخ مثلما يحلو لك ، أنا سأصعد إلى الفندق .
و إلى لحظة كدتُ أجذِبُ حقيبة اليد و أوسِّع بين رجلي لأقفز ممثلةً دورَ الحردانة الغاضبة . عندها اصطدمتُ بوجهِ طفلة بضفيرتين و تلبسُ بقدمها شبشب .
و دونَ كلام ، ارتفعتْ كفّها إلينا .
و خلفها بانت ضفيرةٌ أصغر حجماً ، كانت أختها حلوة التقاطيع تقفُ على استحياء .
هاتان الشحّاذتان حديثتا السِن جائتا للإنتقام مني تحديداً .
- يا ماما نحن من سوريا . أعطينا ليرة ، بجاه النبي محمد .
و انفردتْ الكفّان تنويان صفعي و ضربي بألفِ قلمٍ حامٍ .
صرخَ عارف بهما و أمسكَ بصحنِ السجائر بحركةٍ تمثيلية طاردة .
خافتا و راحتا تركضان آخذتين بساعديهما وراء بعض عبر الشارع إلى الرصيف المقابل .
و أثناء تناولنا للعشاء ، و أيضاً لمّا نفخَ عارف نفَسيِّ ناركيلة و تمطّى في كرسيهِ مُزغلِل العينين ، استمررتُ بالتحديق في جهة الرصيف الآخر حيثُ الطفلتان تعتمدان بظهريهما إلى حائط شاحب بمبنى قديم ، خُطّ عليهِ في قارمة عبارة : " مرحباً بالسيّاح الكِرام ، أنتم في بلدكم الثاني تركيا " ، و حول العبارة أخذتْ المصابيح المُحيطة تشتعلُ فينةً و تتلاشى في الفينةِ التالية .
- أينَ تسرحين ؟ ما بالُ الأكل .. سمك أبو شوارب هذا ، لا تفوتينه . هيّا اقضمي هذه القطعة .
و غرزَ الشوكة في لحمِ السمكة الأبيض و قرّبهُ من فمي لكني نحيّتها جانباً برفق ، لأن لا ذنبَ لهُ و هو يحتفي بزوجتهِ و في عقلهِ أن أسمنَ و أصيرَ مكتنزة مُرضية لرغبتهِ .
- لماذا تبدينَ حزينة ؟ غريب ، وجهكِ يعلوهُ اصفرار . أمريضةٌ أنتِ يا حياتي . قولي ، لا تضنيّ علي بالجواب .. أرجوكِ .
- كيف أخبرتهما أننا لسنا بعرب قائلاً ذلك بالعربية ؟
- أخبرتُ مَنْ ؟ .. آه خاطركِ مكسورٌ عليهما ! .. لا عليكِ هدّأي من روعك .
إنها المصادفة اللعينة .. و الحرب بالتأكيد .
و أرسلتُ طَرفي أشاهدهما تُفسِحان الطريق للمّارة و تضيعان في الزِحام مُشهِرتان ذراعهما مراوحتان الخُطى تستجديان .
- ماذا بوسعهِما أن يصنعا بليرتين يا عارف ؟ إنهُ مبلغٌ زهيد .
- ربما كانتا سارقتين ، انسِ موضوعهما . قرأتُ في الجريدة التي حصلتُ عليها من الفندق هذا الصباح عن شبكات سَرقة مُنظّمة تستخدمُ اللاجئين .
- ماذا تشربين ؟ ، مم .. يوجد حليب بالقِشدة و شوكولاتة باردة .. أما القهوة التركية فسأشربها من صنعِ أهلها ساخنة .
و لم أنبسْ ببنتِ شفّة ، بل التزمتُ الصَمتْ ، أسترقُ النظرَ إلى الفتاتين بحيرةٍ بالغة .
دسَّ أصبعهُ داخل القائمة و جَعلَ يُتمتِم على غير فَهم ، و فجأةً أعجبهُ شيءٌ ما .
- هذه ، نعم ، قهموة إسماعيل . ياه ! ، ما أفخمهُ من اسم ، قهوة إ سـ مـ ا عـ يـ ل ..
، السلطان إسماعيل ، أي واحد منهم ؟ أقصد ما ترتيبه ؟ .
- لا أعرفه ، و قد لا يكون سلطاناً أصلاً .
- كيف ؟ بلا كلام فارغ .. يا ميترْ ، جرسون .. تعال ، احضرْ .
و تلمّظَ ببخار الفنجان و لعقَ بلسانهِ أنحاء شفتيهِ العريضين ، ثم كوّر بقبضتهِ ورقة نقودٍ تُركية و أغلقَ عليهما محفظة الحِساب الجلديّة و نهض .
لبعض الوقت نسيتُ أمرَ الفتاتين . و حينما فَرغنا من السهر تذكرتهما ، لقد اختفتا من الرصيف المجاور دون حسٍ أو خَبر .
مشيتُ أتقدّمُ عارف و رأسي مطروحٌ على صَدره ، ملتفّاً حولهُ مثل نبتةٍ اعتدنا زراعتها في بيتنا في دمشق اسمُها المدّادة . ثم وصلنا غرفتنا ، و هناك ، أوسدني عارف ذراعهُ حتى مطلع الصباح .
بعد أيام يلتقي عارف بأصدقاءٍ لهُ قُدامى تواعدَ و إيّاهم على اللقاء في أسطنبول ، و يصرُّ عارف على دعوتهم لإحتساء القهوة في ذات المطعم .
دخلَ الغرفة و إماراتُ وجهه تشي بالإنزعاج . جلستُ أقلِّب صفحات مجلة أجنبية تهتمُ بالأزياء التقليدية التركية .
بادرتهُ :
- ما بك ؟ .
- القهوة .. قهوة إسماعيل أفندي ، جئتُ لأكذب و لم تضبط معي ..
- لم أفهم . قلْ ماذا حدث ؟ .
- سِقتُ الحديث على هوايّ ، أعتقدتُ أنه تركي بالفعل ، و إذْ يظهر أنه عربي و من اليمن .
سَخِرَ مني أصدقائي و قالوا لي نعرفك من أيام المدرسة و لن تبطِّل هذه العادة .. الكذب .
- قهوة عدنية مثلاً ، ليس عيباً يا عارف أن تشربَ قهوةً عربية في وسطِ إسطنبول .
و هل ذهبوا ؟ .
- نعم . و بالمناسبة وقعَ بصري على الشحاذتين ..
صاراتا يطلبان الليرات بالتُركي ، تصوريّ ! .
انتهت في 23 أيلول 2013 .
No comments:
Post a Comment