عبرتِ مخيّلتي . ذبّلتُ عيني كي أنسى
كي أذبَّ عن نظريّ غَباشاً كحومةِ الذُباب ..
كنتُ في جِلستي رجلاً مُرتاحاً أعمى .
خالَ السعادة بإيقادِ الشمعِ الذي ذابْ ،
فتراكمَ و تعاظمَ و تصاعدَ المبنى .
رفعتُ صفحة وجهي من صفحةِ الكتابْ
تذكرتُ تقاطيعكِ الضائعةَ هُنيهةً ،
كتقاسيمِ أغنيةٍ كدمِ النازفِ المُصاب .
تطابقتْ رموشي الخَدِرة الوسنى ،
عِشتُ غيبوبةً أُريدها و اخترتُ الغيابْ .
لن أدعوكِ منذ الآن حبيبتي الأنقى ،
فلا أخفيكِ تلوّثتُ و أضعتُ الصوابْ .
تشبّعتُ بالأحاسيسِ و ما أسرعَ ما تفنى .
لو أن دمعةً مُضيئة انثالتْ في لحظةِ انتِحابْ !
لذرفتُها على نفسي العائشة في منفى ..
و غَابْ .
أنثرُ في الذِكرى ما ضاعَ من سنين
و ما أذاقني من صورِ العذاب تفَانين .
هو الشوقُ يدفعُني و يسلبني تردد الخائفين ،
ألا لو كنتُ أقربَ إليكِ ، إذن لعرفتِ تتصورين
كيفَ يشحذُ أنفاسهُ ذاكِرُ الحبِّ على حدِّ سكين ،
و كيفَ يكتمُ أنفاسهُ ، عبثاً ، جَسدٌ عاشَ بين الجثامين .
فالجسدُ قبرُ المُتحدِّثِ لا يخطؤهُ نظرُ عين ..
و أولُ الحدود ، تتحرشُ بإرتحلاتهِ طفولةُ الحالمين .
و صفعةٌ تؤلِمُ و تورثً لوناً أحمراً كاليقطين ..
فلا تسألي عن سرٍ فيهِ أنتِ تشهدين و تحكُمين ،
إذْ الدمُ ربما قرصةٌ أو نسمةٌ جرحتْ تفاحةً في الخديْن .
و انهارَ على إثرها طوفانُ حُسن ٍ و حساسين ..
هذا ما يتبقى من الحُبِ بعدَ أن تذهبين .
هذا ، بعدَ أن تكتسحي ميداناً فيهِ رجالٌ مُهانين .
ثم تدعيّنَ البساطةَ ، و يقفزُ فلقتا قمر ٍ فوقَ العينين ،
و يحلِّقان في صباحٍ خُلَّبٍ و رمشين مُطهميّنْ .
يخذلني عدمُ فهمٍ و استهجانٌ ضدّكِ يا مَنْ تكذبين ،
يا رسمةَ الملاك ، و أنتِ للربِ تَسجدين ..
بصوفيّةِ الفنّان و خلالَ أصابعهِ تكبُرين .
تخطيِّنَ المسافةَ بين مكانيْن ، و هناكَ تصبحينَ
سيدةً للوقتِ و عرّافةً ، أختاً للمجانين ..
غائراً في رِحاب الفضاء قمرٌ اكتملْ
يجاري الشموس فيصنعُ دورةَ الأجلْ .
يستنيرُ وجههُ بضياءٍ يُشبهُ ألَقهُ الغَزل ،
عبرَ جلاءٍ فسيحٍ تتوهُ فيهِ المُقَلْ .
و أسيرُ أشدُّ بيدي حَبلَ الحَمل ،
و كلبٌ يعوي ورائي ، خَبرَ المَنزِلَ و المُرتحل .
و غابةٌ في البعيدِ سامقةٌ أصابها الشَلل ،
تلوحُ كليلٍ في ليلٍ مُتربَصةً بالخوفِ و الوجَلْ ،
صريرُ زيزانِها و غيلانها و جُعلانها يَصِلْ ،
روحٌ بريحٍ تُقلِّبُ الكائنَ المُنتحَلْ ..
للقمةِ الخُبزِ هِمتُ في براري الإنصياعْ
حَبّاً من ذَرورِ الأرض أجمعها صاعاً فصاعْ ،
بحجمِ عُقلة الإصبع و مُقلةِ العينِ و في نفسي مَشاعْ .
و لولا وعداً منذُ أعوامٍ خَلتْ ، لقلتُ مُضاعْ
أن يصرخَ الراعي في وادي الرِعاعْ ..
أيُ خذلانٍ يهزُّ شمسي
عند إطباقِ رمشي حينَ يلتقي الشُعاعْ .
و قبلَ أن أرسمَ موجةً على شطِّ رِمال ،
كادَ أن يكتملَ شكلُ القِلاعْ ..
فضيّةً تلمعُ توزِّعُ في الجِهات الشمائلْ .
و على استقامةِ الطريقِ تتحاذى منازلْ ..
ثم يفرقُ الشارعُ الأسودُ مثلَ الجدائِل .
و ينطلقُ صمتُكَ حافٍ يحملُ وجهكَ بلا قِناع ..
فلتسقطْ عنكَ السلاسلْ ،
و اكتئابُ الحقلِ اليافع .
هلا افتكرتِ وقفةً بيننا على عطفةِ الدَرجْ ،
لامستْ فيها يدي يدُكِ و تخادشتْ أصابع ..
عند بِركة صمتي و ذاكرتي الآن لا تؤلمني ،
أحجارٌ في القاعِ اجتمعتْ من الأماني ،
سجّلتُ فوقها أبجديتي الأولى و طقوسَ حُبكِ و الأغاني .
اختلفتْ أفوافُ زهرِ اللوز و المعاني ،
فالغصنُ في صدرِ الشجرةِ رمحٌ مُخادِعْ ،
و بِركةُ الأسرارِ مَرتعٌ للضفادع ..
الرُعاةُ يركبونَ متونَ الجداولْ ،
داسوا وشوشات الماء بالصنادِل ،
حينما عبروا بقربي و قد أخبروني
أن في الحربِ القادمة ستُحال الضفادعْ ..
في أيديهم قنابلْ .
إذاً اصعدْ يا قمرُ سلّةَ السماء رغيفاً يوجُّ ،
اخترتُكَ أنتَ قُرباناً و ساعي رسائِلْ ..
مطروداً من جنّتِها طَفِقتُ ألملِمُ عُرييّ ،
أجمعُ مُزقاً بخيطٍ من لحمي و شَعري .
أضمرُ لها حُبّاً و أنا أجري ..
بعيداً عنها أكتمُ في قلبي سِريّ ،
عاضّاً على شفتي بما نلتهُ من نَشوةِ الظَفرِ ،
ثَمِلاً بدموعي ، تَحفِرُ خدودي كالنَهرِ .
حقاً الوقتُ في ساعتي منذُ سنتينِ لم يَسِرْ ،
أَسِفتُ للحظةٍ قالوا فيها تَزوَجتْ و ألهجوا بالخَبر ،
سرّوا لأجلكِ إلا أنا ، فقد شَرعتُ بعدها في هِجرةِ الصَبر .
كم صارَ الآنَ عُمري ، هل كَبِرتُ و جاوزتُ مرحلةَ الصِغرِ ،
أم أبقى مرهوناً للأبدِ بينَ خُذلاني و كَسري ؟ .
و أجدُني أنسى جفوناً مَعقودةً بالسحرِ ،
رموشاً تهتزُّ كالوترِ ،
فراشاً يَبرِقُ على الخَصرِ .
فلا كانَ يُخامِرني ،
مَشيُّكِ مع هزيجِ الناسِ مرشوشةً بالعِطرِ ،
دوسيّ على ورقِ الوَردِ و ضُوءِ القَمرِ .
و لكِ أن تَسخري ..
فالمسافةُ بين المُدرِّسِ و المُهندسْ ،
هي ذاتُها بين الكوخِ و القَصرِ .
و لكِ أن تَعظي ..
فأنا شيطانٌ أوسوِسْ .
أرتجي ما لا يُرتجى
أن أفتحَ قبضتي المضمومةَ
فلا يفنى النَدى ..
أن أستردَ دموعاً ذرفتُها
في ميعة الصِبا .
أن أخلو إليكِ في ساعة رضا
و أنالَ الحظوةَ و المَنزِلْ .
و قد كنتِ جميلةً كفايةً وقتها ،
عندما تأملّتُكِ في مرايا المَحلْ
و رأيتُ دمي في كأسِ العصير
كأنما زيِّدَ إليهِ ماءُ الحَللْ ..
و شَهِدتُ جَسدكِ النَحيل يرتخي ،
غَريباً عني ، و كانَ بصحبتكِ رَجُل .
وَضعتُ كفي على الطاولة لأتبينَ الخَللْ ،
كيفَ نَزلَ الحُبُ في قلبي ..
و كيفَ رَحلْ ؟