Monday, April 9, 2012

ياسمين

                                                                                     ياسمين .

 

jasmine

 

في بناء منعزل ٍ بشبّاك واحد و اطىء و مزراب طويل ، تشتمله حديقة واسعة غنّاء ، يحتلُ منها طرفاً قصيّاً عن البوابة ، حيث يسكن عامل الحديقة و حارسها في آن واحد ، و هو الذي قَدِمَ من الريف مؤخراً مصفّقاً بكفيّه الخشنتين على لاشيء . شابٌ في مطلع العمر ، متوسط القامة بشعر فاحم أسود . حطّت به الرحال واحداً من عمال المدينة ممن تجدهم على الأرصفة و في محطات الباص في الصباح الباكر متلفعين متلثمين كأنهم في صحراء ، يلبسون القبعات و القمصان المغبّرة ، مشعثي الشعر متهدّلي الشارب . و قبل أن تُصرف له وظيفة الحارس ، و هي التي كانت حظّاً سعيداً يُحسد عليه كما قال لهُ موظف البلديّة ، كان يحمل الطوب و اللِبن على ظهره و يصعد بها الدرجات التي لا تزال على العظم في ورش البناء ، مُفرغاً هو رفاقه شاحنة كبيرة في الصباح و أخرى ثانية في المساء . إلى أن بات يحسُّ بالدوخة و آلام في الرقبة ، و لم يكن لهُ من بُد سوى أن يفتّش عن شغل ٍ غيره ، ليس فيه من الإرهاق و الجهد مما يُضاعف عليه الأوجاع و الدّوار .

 

ثم استقرَّ في جنّته الأرضية ، محاطاً بالورود و الأشجار المتنوعة الطبيعيّة منها و الصناعية و حتى المستوردة . كانت حديقة عامة ، يربطها بالشارع الرئيسي طريقٌ قصير ضيّق كأنه مدخل ، يتوافدُ إليها الزوار و المتنزهين نهاراً ، فتعجُّ بالبّاعة المتجوليّن و الأطفال اللاعبين اللاهين بالألعاب و المراجيح ، هذا ما عدا القادمين إلى المتحف أو المكتبة ، مما يخلُص إلى نتيجة أن الحديقة في النهار ليست هي الحديقة ذاتها في الليل . متى ما أُشعِلتْ الأضواء و مشى تحت أنوارها شابٌ و فتاة ، أو أم تجرُّ عربة طفلها ، أو جمعٌ من الشباب قليل جاء يروّح عن نفسه بالسهر . و رغم أن ذلك كله كان يمضي رتيباً لا جديد فيه ، إلا أن حمية العمل و الرغبة الضارمة بأن تغنى الحديقة أكثر و تبقى في أحسن حال فيها ما فيها من المسرّة و الإبتهاج ، كان كفيلاً بأن يظلَّ ممسكاً بمقصّ التقليم و طوريّة الحراثة و منكوش التراب . حتى إذا ما فَرُغَ من عمله جلس مساءً يتأمل العالم في حديقته ، ناظراً إلى مريديها محدّقاً في الوجوه ، مسترقاً السمع للأحاديث . في حين يلامس وجهه نسيم المساء البارد ، فتكرُّ به الذاكرة إلى قريته البعيدة و أعراسها و غيطانها و محافلها . لم تكن قط تُثلِج في قريته ، كانت تكتفي السماء هناك بالمطر ، فتفيضُ الآبار و ترتوي الأرض المشاع . نَدفتْ منذ يومين ثلجاً مثل القطن يسّاقط بروية و شاعرية تورثُ النفس شعوراً بالراحة و السكينة . سقط الثلج ساعة الظهر ، شاهده و هو يتكوّم فوق أوراق نبات السيّاج و النَجيل ، و يغطيّ أحواض الطين ذائباً على السطوح و حوّاف الجدران ، مصحوباً بتيّار هواء ٍ بارد ، أرغمهُ على الإكتفاء بالنظر من خلف زجاج النافذة ، و هو الذي يرغب بالخروج و القبض على البياض المقصوف براحتيّه ، ممرراً قطرات الماء الخفيفة في خطوط يده . و بينما هو يمليّ عينيه و يقلّب وجهه ذات اليمين و ذات اليسار ، إذ وقع بصرهُ ، في الجو الغائم مغبّش الأضواء ، من خلال زجاج النافذة المسيّجة و المعرّقة بالبلل ، على شخص تبيّن فيما بعد أنه فتاة . كانت متناسقة القوام بجذع ٍ ملفوف لا هي بالسمينة و لا النحيفة ، بنفس طوله تقريباً . كانت واقفة ً فوق المقعد الحجريّ الطويل ، تعبثُ أناملها بعريشة ياسمين مدلاة ً فوق السيّاج  ، و لم يكن عليها غير بلوزة من الصوف ، و حجاب يسترُ قماشه رقبتها و جانبي رأسها . و بان على السماء أنها بوارد الزخّ و الغزارة في منحها و عطائها . فخطرَ لهُ تسليفها معطفهُ ، و هي الوحيدة الموجودة في مرمى شِباك المطر و الوحيدة التي لا يُفهم سبب وجودها في الحديقة المكشوفة في مثل هذه الساعة . و على الفور ، جَذبَ طرف المِعطف و راح يركض بإتجاه الفتاة غريبة الأطوار . مدّ لها إياهُ مفتوحاً بالعرض كي ترتديه ، و كان قد لاحظَ أنها بنفس طول قامته تقريباً ، و إن كان على نحافة مرضيّة بعض الشيء . أدخلتْ ذراعيها فيه و زررته حول خصرها ، و قد اتشحّ وجهها بحمرة الخجل و سمع منها كلمة شكراً و رأى يديها تستقران بجنبها بعدما كفتا عن التلصص في الياسمين . و في اليوم التالي ، طُرِقَ الباب طرقات يد ٍ صغيرة ، و انفرجَ حقاً عن وجه ٍ صغير مدوّر عرفَ منهُ أنه ُ أخيها الأصغر و قد جاء يردُّ المعطف ، و لم يدعْ مجالاً لكلمة واحدة ، إذْ أخذَ يجري نحو البوابة بإتجاه الشارع الرئيسي .

 

تحسّن الجو و كفكفتْ السماء دموعها بغيم ٍ أبيض كالمناديل . وضعَ المعطف الذي أرعشهُ استلامه مرة ً أخرى ، لقد كان يضمُّ في بطانته أنثى كاملة قبل ساعات قليلة ، منسحباً على كتفين ناعمين ليسا كتفيه . ظلَّ يفكّر فيها طول الليل ، و لما أثقل جفنه الكرى قُبيل الفجر ، أيقنَ حينما استفاق ، أن أفكارهُ لم تدعه و شأنه ، بل لقد حَلُمَ بها و هي تسحبُ اناملها من الياسمين مولية ً ظهرها للأشجار و النافورة تغرغر على لا مبعدة منها ، و لم تكن السماء تُمطر . و فجأة ً انقلبتْ العريشة إلى صِلّ برأس ٍ أصفر . فصرخ و صرخ ، و كان لا يزال خلف الزجاج ، في الفراغ . و عندما قامَ بسحب المزلاج إلى الأسفل استعصى و لم يفتح ، و لما بدأ يفتّش عن المفتاح كان قد عاوده الدوار في رأسه .. و استيقظ .

 

شمّ للمِعطف رائحة عِطر ، و دفءاً بين ثناياه خالهُ لوهلة ٍ لها ، لكنه تذكّر فردهُ إياه فوق المدفأة . لم يكن لون المِعطف أو تفصيّلتهُ الرجاليّة لتلائم تلك الحوريّة . لكنها على أيّة حال دخلتْ فيه و مرّرتْ لحمها و عظامها في خيوطه ، و هو الآن يتحسّسه و يقلّبهُ بين يديه ، مقرّباً إياهُ من أنفه ، داسّاً كفيّه في جيوبه ، معانقاً جوانبه .. ياقته ، أزراره ، حواشيّه . و ظلّ شارداً في وقوفه حتى تناهى إليه أصواتٌ ضجّتْ في الخارج ..

 

عُنيَ بالعريشة منذ تلك اللحظة أشد العناية و أبلغ الإهتمام ، قصّ أطرافها الذابلة المصفّرة و اعتاد سقايتها كل مساء . كان يغضب لمجرّد أن رأى أحدهم يقترب منها أو يهمّ بملامستها ، كانت مرخية ً أذيالها فوق أسلاك السياج بدلال و زهو ، أصلها في حوض حجريّ أشبه بالكأس . و مع الأيام نَمتْ و أينعَ بياضها و باتت محط الأنظار و علامة للإنشداه و الإعجاب .

 

و في الأيام الممطرة التالية ، ظلّ متسمّراً قبالة النافذة كالمسحور ، يرقبُ فتاته التي لا تأتي . راودتهُ خاطراً وامضاً .. تتسربلُ ميّاسة ً طريّة كغصن ِ البان ، يعثرُ إثرها على عصفور ٍ منكمش ٍ في صدره ، يلمسهُ بأصبعه ِ لأجل أن يطير و يرفّ في الفضاء .

 

تبلل الوشاح على رأسها ، و ساحَ الكحل من على عينيها .. و لم يطر العصفور ، ظلّ وحيداً منكمشاً متربّصاً ينتظر ، بحاجة لأن يسمع كلمة أخرى من شفتيها المُدمتين ، فصوت رصاصة ٍ أخرى .. و يقفزُ العصفور من الدغل .

Sunday, April 8, 2012

الشتاء

 

11 

الشتاء .

أعبرُ الشارعَ و الذي يليه . لا ترهبني الأضواءْ

و القمرُ صغيرٌ ، و الأرضُ معتمة ٌ كما السماءْ

و القمرُ نوره لا ينيرُ ، فكل الطريق ِ اختباءْ

و يقيني في الليل ِ صوتُ خطويّ ..

و مصابيحُ سيّارات ٍ ضوءها نحويّ .

أعبرُ الشارعَ و الذي يليه . فتختلطُ في أذني

أحاديثُ العابرين مساءً ، بضجّة الشارع العموميّ

و خطوهم يشبهُ خطويّ ، و قد باتوا الآن حذويّ

لكنيّ ما ميّزتُ فيهم صوت الرجل ِ من صوت النساء

ضحكاتهم ، سكناتهم .. رجفاتهم من بَرد المساءْ

" و كلامُ الباعة ِ أبلغُ من كلام ِالراصد ِ الجويّ . "

 

تُطالعني واجهة ُ محل ٍ ، بالقبّعات ِ و المعاطف ِ و الحِذاءْ .

و ما الربيعُ و الخريفُ و الأصياف تسكننيّ

لكنها الأشياءْ ..

الأثمارُ و الأزهارُ و الغصون الخضراءْ

و ورق ِ الشجر ِ يسحقه حِذاءْ

و عَرقُ الصيف ِ ، تسلّلَ فوق جبهتي كالماء

إلا الشتاءْ ..

هزّ عظميّ .

شدّ لحميّ .

ألهبَ بَردهُ حلقيّ ،

و جيبيّ ..

بأسعار ِ الدواءْ .

إنه الشتاءْ ..

أواجههُ وحديّ .

بسُبات ٍ طويل ٍ و شفاه ٍ تذويّ

في وضوح ِ لفافة ٍ بيضاءْ .

لعلّ بياضها يبددُ سوادَ حُزني .

 

أعبرُ الشارعَ و الذي يليه . بالمقهى المُضاءْ

أفرِشُ الجريدة َ على طاولة ٍ بكرسيّ .

و اسمعُ صوتَ النرد ِ يرويّ ..

قصة الأخشاب ِ و الألواح الجرداءْ .

زبونٌ يجلسُ على جنبيّ

ألحّ بالنِداءْ ..

و لفرط صبريّ .

قلبتُ الصفحة َ الأخيرة ، و لا أدريّ ..

هل بردُ الشتاءْ ؟ أم سطوعٌ في الأضواءْ ؟

صوّرنيّ إيّاها .. وحيدة ً في العَراءْ

تلكَ التي رافقتني .

و تركتني وحيداً ذات مساءْ .

 

Thursday, April 5, 2012

المدينة العجيبة

 

Crying_and_laughing_masks_by_kiro_the_joker

 

كان يملؤهُ الحزن و التعاسة و الألم ، يشعرُ أن كل شيء ٍ حوله بغيض منفّر . يترقبّهُ الشكّ عند كل منعطف ، في أقصى كل زاوية . متوتِّراً أبداً ، يُنفقُ من ريع اللوحات التي يرسمها و يبيعها على سجائره ِ و صبغات الشّعر و الألوان و الريَّش . ارتضى العُزلة أختاً لعزوبيّته ، جمعَ بينهما في غرفته البعيدة عن المدينة التي طالما أرهقته مشاغلها و أسلمتهُ همومها إلى صداع ٍ أليم ٍ طويل . لكنه يعرف أنهُ لا يطلع في يده التخليّ عنها أو تنكّب محافلها ، تلك التي شغف بها قلبه و امتلأتْ رءتاه بدخّان مصانعها و عوادم سيّاراتها ، تلك التي تزحلقَ بنفايات شوارعها و تعثّرَ في حفر طرقاتها . لقد كانت أثيرته و حبيبة قلبه . و ما كان ليعدل عن هذا الرأي حتى بعد أن ابتلعته إحدى زنزاناتها و حرمته منظر السماء الزاهيّ قرب التلّة كل صباح ، حينما يبتُ أمره و يقرر مسك ريشة الرسم و الشروع في ضرب أول الخطوط على سطح الورقة و في نيّته الخروج بلوحة جديدة ، و لأن المدينة أحزنته و كبّدته ما لا طائل له عليه من أحكام البهتان و الإتهامات الباطلة ، فقد قررَ أن يضفي على رسمته الأولى بعد خروجه السجن ذاك الطابع الذي يعبّر عن حزنه و حنقه و استيائه ، و خطرَ له بعد حين أن ينحي بها بعض المنحى الساخر الناقد . بذل جهداً كبيراً في إعتصار مخّه ، حتى أنه شدّ شعره و كزّ على أسنانه ، في محاولته للخروج بلمحة تختزلُ كل ما في روحه من عجز ٍ و قهر ٍو ضعف ، لكنه ما أفلح . و تضمّختْ أغلب محاولاته عن رسمات ينقصها الإقناع و يلتبسُ فيها الفهم ، فاقدة ً الإثارة . و ظلّ على هذا المنوال إلى أن أطبق الليلُ على تخوم المدينة و أسدلتْ البيوت ستائرها . فكان في لحظة وسن ٍ فريدة ، و رأسه مسطول و ذراعيه خَدِرتان . أمسك الريشة و راح يخطُّ على الورقة على نحو ٍ من النزق و الملل ، و كلما أمعنَ في الرسم ، شدَّ على القلم و ضاقتْ عيناهُ بمكر ، و على شفتيه ابتسامة هزء . و بينه و بين نفسه ، راحَ يردد .. لم يبقَ إلا القليل ، حتى وصل منه الحال أنه صار يغمض عيناً و يفتح ثانية . و قد دفع بفكرة إعداد القهوة بعيداً ، مُصرّاً على أنه لا محالة فارغٌ من إتمام مزحته الكبرى ، و أن ولعاً شديداً تملّكه ، إذْ يستيقظ صباحاً فيجد بين يديه ما يقذفُ به المدينة و أهلها ، فيستوعبون معاناته و يأسفون لمهانته

 

 . 

استفاقَ صباحاً على صوت عصافير ٍ تُزقزق على نافذته . نفضَ عنه النوم ، و بدا كأنه نسيَّ أمر الرسمة . فغسلَ وجهه و تناول فطوره و دفع بمصراعي النافذة ليرَ مدينته العزيزة و هي تنهضُ من نومها هي الأخرى . غير أن عصفور لئيم بال على رأسه مُجشَّماً إياه معاناة الإتجاه إلى المغسلة مرة ً ثانية . و عندها فقط لاحتْ له الرسمة حجراً يضربُ به المدينة و عصافيرها . فرمى بالمنشفة و أخرجَ اللوحة التي صارعَ لأجلها طيلة الليل ، و إن كان غير مركّزاً مشوشاً أكلهُ النوم في النهاية . و هكذا أرادَ أن يتملّى عروسه التي تلطّختْ بالحِبر و لم تعد عذراء ، التي صبّ فيها جام غيظه و تعاسته ، شاداً على أعصابه زافراً بحرارة كثور . و لا يُفهم بالضبط ما الذي حدث ؟ ، و لعله هو لو قَدِرَ على كبح نفسه للحظة واحدة ما نجح في تفسير الواقعة . فقد انخرطَ بالضحك و القهقهة على حين غِرّة . تطلّعَ إلى الصورة ، فرجفتْ شفتاه و أحسَّ بقنبلة تكاد أن تنفجر في فمه . زمّ شفتيه و هو يضغطُ كفيّه و يكاد يقفز من مكانه . و سُمِعَ بعدئذ ٍ ضحكة عالية مجلجلة تتردد في أرجاء البيت . انقلبَ على إثرها على ظهره و راح يرفصُ و يضربُ بيديه على الكنبة ، شاعراً بدغدغات في خاصِرته . و ظلّ في ضحكه المتصل إلى أن فارقَ الحياة ، و لقد عُثِرَ عليه ميتاً من قِبل خادمة عجوز كانت تتردد على المنزل لتوضيبه و تنظيفه ، فما كادتْ تراهُ مُلقىً على بطنه فاغر الفم حتى انطلقتْ تعوّلُ و تصيح . و جاءتْ الشرطة و نُقِلَ الجثمان إلى المشرحة . و هم في أثناء ذلك كله منشغلون عن اللوحة التي كانت إلى جانبه . و ما أن تم اكتشاف أمرها ، حتى اُتهمَ الميّت بالزندقة و لعانة الوالدين ، و أنه لربما كان يخطط لعمليّة إرهابيّة . إلا أن القدر ، المُحب للسلام ، قد لطف بالمدينة من شرور ذلك اللعين و أنجاها من مكيدته و سوء عمله . و هذا ما تردد بين الناس طويلاً و تناولته وسائل الإعلام بكثافة ، و خطب به المتفوهوّن و أطنبوا في روايته . و قد تم الحجر على بيته و ممتلكاته ، حتى أنها شُمِعّت بالشمع الأحمر . و لم يكفهم ذلك ، إذْ تقرر نبش قبر المتوفى و تعريضه للرائين أمام مشهد ٍ من الناس ، إذْ شاعتْ بين الناس بعد لأي ٍ أحاديث و شائعات شتّى ، من أنه تناهتْ إلى الآذان صوت ضحكات من القبر ، فكان لا بّد من وضع الأمور في نصابها و الحدّ من القيل و القال . و لذلك ، نُصِبتْ مشنقة في وسط المدينة ، عُلّشقَ عليها الميت ثم شّدَ عليه الخِناق و أُحكِمَ حول رقبته الحبل . و راحَ يهتزّ في أعقاب ذلك مُدلدِلاً لسانه كأنما ليسخر ، مما أوحى بفكرة حرقه ، و صار لِزاماً الخلاص منه و من لوحاته البغيضة المحرِّضة في أسرع وقت و للأبد . فأضرموا في جثته النار مُلقينَ بلوحاته في لهيبها المتأجج . و لحسن ِ الحظ نسيه الناس و خفُتَ تردد ذكره حتى انمحى . و إذْ بعاصفة غباريّة رمليّة اجتاحتْ المدينة ذات نهار ، و لما انقضتْ سُمِعتْ القهقهات من كل حدب ٍ و صوب ، و ترجّعتْ الضحكات في كل شِبر ، و انقلبَ الناس على ظهورهم و بطونهم في الأزقة و الأسواق ، حتى يخالُ لمن يُبصرهم أنهم على وشك الإنفجار و التمزّق إلى أشلاء . فقد خارتْ الأحناك و تمزّقتْ الخواصر و كّدتْ الأكف لكثرة الضرب و الدقّ . ثم انسحبوا إلى بيوتهم و هم يزحفون أو يرتكون على الجدران و أعمدة الكهرباء . و في اليوم التالي استمرَ الضحك و خرجَ الناس بسحن ٍ مُرهقة و لكن بطيف ابتسامة بائتة على الشفاه الممطوطة . و تبيّن السبب فبطُلَ العجب . لقد كانت العاصفة تحمل بين ذرّاتها خلايا الرسّام الميّت و ثرى رفاته المجنون ، فأُصيبَ الناس باللعنة ِ أجمعين ..



فُرِضتْ الضرائب على كل مَن يُشاهد في ساعات العمل يضحك ، أو يُداهم في دورات المياه ، مُلقياً رأسه في مقعد المبولة ليكتم ضحكه . عُلّقتْ لافتات تحمل شعارات مثل " الضحك من غير سبب قلّة أدب ." إلا أن الواقع ظلّ صعباً على السيطرة خارجاً عن مقص الرقيب ، و الذي كان في العادة كَشِراً لا يضحك وجههُ للرغيف الساخن ، مُجلجِلاً في الشارع و المقهى و المدرسة و المصنع بالحشرجاتْ و الشخير الذي يسبقُ الضحك عادة ً . و استمرّ الحال على ما هو عليه إلى أن لعلعَ الرصاص في الجو و طالتْ الإعتقالات كل فمٍّ يهرّب الضحكات ، فامتلأتْ السجون بالناس .. شيوخاً و شباباً و أطفالاً ، و أفرغتْ المدينة محتوياتها في السراديب و الزنازين ، كأنما اللعنة نفسها تستحضِرُ خطيّة الرسام الضاحك .

خرجَ الناسُ من سجنهم و مشوا في الأرض ِ سائحين ينوحوّن ، بكوا بأعين ٍ محمّرة و وجوه ٍ مغضّنة ، فاخضّلتْ لحى الشيوخ و ضربتْ النساء على صدورهن مولوِلات و أطرقَ الرجال رؤوسهم حزانى منكوبين . و بكى الأطفال في الأزقة و الملاهي . ذرفوا الدمع بحرارة و لوّعة تُقطّع القلب ، ينشجونَ مقرفصينَ مغطيّن وجوههم بالسواعد . و قطرة ً وراء قطرة ، تشكّلتْ السيول الصغيرة ، التي ما لبثتْ أن اجتمعتْ و تحوّلتء إلى نهر ٍ كبير اجتاح المدينة ، يرفِدُ بكل دمعة ذرفها العين . و متى بكى الناس كثيراً ، إذْ بطوفان هائل يُغرِقُ الشجر و الحجر و البشر في آخر المطاف ، فلم يعد هنالك من سكّان إلا نفرٌ قليل حزم متاعه و فرّ هارباً .

دارتْ الأيام و أهلَّ أناسٌ جدد إلى المنطقة ، فأقاموا مدينتهم و نهضوا بالعمران . زرعوا الأراضي و شقوّا الطُرق ، ثم لم يمض ِ وقت طويل إذْ أصابتهم اللعنة القديمة و هم عن كنهها غافلون . فلقد أكلوا من الزرع ، و انشبّ الضحك في حلوقهم كما حدثَ للذين سبقوهم ، فأفرغَ رقصاته في صدورهم و بطونهم ، و راحوا يتقلبون على جنوبهم . و منذ ذلك الحين ، سُنّتْ القوانين التي تحرّم الزراعة و تمنع غرس فسيلة في الأرض . و أقبلتْ المدينة تستورد بضائعها و موادها الغذائيّة من الخارج ، قابضة ً على أي مخالف أو معارض لحكمها ، تسوّلُ له نفسه خرق القوانين ، و تزجّه السجن .

و ها قد انقضى وقتٌ طويل و لم تشرّش شتلة في الأرض . جاع الفلاحون و هَزُلتْ مواشيهم ، و ازدحمتْ المتاجر و الحوانيت بالمنتجات المستوردة مرتفعة الثمن . بات الناس في ضيق و ضنك ، في وجوههم عبسٌ و على شفاههم ضحكات ٍ سخيفة صفراء ، ينامون و لا ينامون ثم يصحون سكارى .

لكنهم طالما منوّا أنفسهم أشدّ الأمنية ، و لو بينهم و بين أنفسهم ، بالسنابِل الخضراء و الأفرع الباسقة و الثمر المحمول . آه لو تنموا في أرضهم مجدداً و تُفرّع ، آه لو يضحكون ! .

Tuesday, April 3, 2012

الإنشطار

 

 

jska-bipolarWIP

 

( 1 )
تأخّر النوم تلك الليلة مع أنني طلبتُه كثيراً , و عندما تيقنتُ أنه لن يأتي , نفضتُ الشرشف و مضيتُ إلى المطبخ 
كي أصنعَ فنجاناً من القهوة . 

( 2 )
كلما أوغلتَ إلى اللبّ السحيق قلّ الهواء و سيطرتْ على المكان ظلمة موحشة . كنتُ قد قررتُ البحث عن الشمس 
مهما كلّفني ذلك من جهد , و إن كان من الصعب عليّ أن أفارق هذا التراب الذي يطوّقني من جميع الجهات , لكنني
أصررتُ على قراري هذا , و دون هوادة أخذتْ أناملي تشقّ سحابة الطيّن الثقيلة الجاثمة فوق رأسي منذ أمد طويل . 

( 1 )
فقاعات القهوة تتراقص من على السطح الأسود مما أثار في صدري رغبة لأن أطوّقها بين الشفاه القُرمزيّة 
و إذْ استقرتْ في قاع الفنجان حتى شربتُها بسرعة و على نَفْس ٍ واحد , تذكرتُ لذّتها صباحاً بينما كنتُ 
أهمّ بالخروج إلى العمل .

( 2 )
بدأتْ الدماء تتنافر من أصابعي المشروطة المتمزقة اللحم إثر البَحش بين فتات الصخر الحادّ , لكن ذلك 
لم يكن ليثنني عن هدفي و لم يثبّط عزمي عن المواصلة .
"
يكفي .. يكفي ما حييتُه تحت الأرض , ألم يحن الوقت لأرَ الشمس و لو من ثغر ضيّق ؟ "

( 1 )
بخختُ من العِطر على بذلتي الكاكيّة المذوّقة ما يكفي لأسبوع ٍ كامل , ثم نظرتُ في المرآة المعلقّة على 
الجدار ابتسمتُ فردّ علي الآخر بإبتسامة مماثلة , و لم يطل ذلك كثيراً حتى كنتُ أمام العتبة استشعرُ 
بالبرد و أبحثُ على استعجال في جيبي عن مفتاح السيّارة .

( 2 )
صادفتني جذور أعشاب رخيصة تنبتُ لوحدها من غير إذن . بكل جسدي , رحتُ أعوم إلى الأعلى رغم عن 
أنف رائحة الرطوبة المخضبّة ككنز ٍ دفين , و لمّا صار نصف جسدي فوق الأرض , أبصرتُ حقلاً يمتدّ إلى كل 
حدب .

( 1 )
استمهلتُ الدابّة الحديديّة ذات العجلات الأربع و اللون الفضيّ اللامع مُهلة ً من الوقت حتى تسخُن , ثم 
امتطيتُها و مضيت .

( 2 )
بعد ركض ٍ مُضني وهَنتْ له قواي و اختنق له قلبي , استقرّ ناظري على عمود يحمل في عليّه ثلاث كرات :
حمراء , برتقاليّة و خضراء . كم راق لي أن أتابعها على مهل , تتناوب فيما بينها الوميض , ربما لأنها أول
شيء أبصره بعد مغادرتي بطن الأرض إلى ظهرها .

( 1 ) , ( 2 ) 
عند المنعطف الحاد , و فجأة ً ..
نطّ أمامي جسد بشري حاولتُ تفاديه و لم أستطع , لقد فرض علي الإصطدام بقفزته المفاجأة 
,
فخرجتُ على الفور دون وعي و لا معرفة ماذا يتوجب علي أن أفعل , و بينما كنتُ واقفاً 
على مقربة منه , زاغ نظري إلى واجهة السيّارة التي تبدو الآن كمرآة تعكسُ لي صورتي و 
صورته و لم أكن قادراً على تحمّل الصدمة ..
فلقد دهستُ أنا نفسي بعدما غادرتُ الحقل و البيت في آن واحد .

Monday, April 2, 2012

النسيان

 

Don__t_Forget_Me__Sketch__by_Chibi_Celestia

عليَّ أن أعبّأ الزجاجة بالماء و التأكدُ من انسداد أنبوبة الغاز جيداً ، ثم أنقادُ بهدوء إلى السرير . لا شيء مهم اعتدتُ فعله قبل أن أخلُدَ للنوم و ذلك منذُ أن أضحيتُ من جديد وحيدة . امرأة ً عزباء مرة ً أخرى ن أقومُ بتسيير شؤون حياتي بمفردي . بإختصار أنا امرأةٌ مُطلقة . طلّقني هو في مطلع شهر نيسان ، و لما بُحتُ بذلك إلى زميلاتي في الشُغل ، وجمنَ هنيّة ثم بدأنَ بالضحك ، و استغربنَ من أنني صِرتُ أختلقُ الأكاذيبَ فجأة ً ، مع أنني لا أفعلها .. لا أفعلها 
! 
خلعتْ خُفّها الدافىء و انسحبتْ بكامل جسدها تدريجيّاً فوق السرير ، الذي أصدرَ صريراً مُتكسّراً بدوره ، لكنها ما لبثتْ أن اعتدلتْ ثانيّة ً و نهضتْ لتُغلِقَ النافذة القريبة . كان شهر كانون الأول قد شارفَ على نهايته ، و الطقس البارد يعدُ بالمزيد من المطر . و هي لا تقوى على احتمال البرد . منذ أن كانت صغيرة و أمها تصبُ عليها الماء و هي بالطشتْ لتستحم ، بدأتْ ترهبُ الماء البارد .و عندما صارتْ في المدرسة ، كانتْ تركضُ تحت المطر مُسرعة و رفيقاتها في الفصل يضحكنَ عليها و يسخرنَ منها . حتى عندما كانت برفقته هو ، و هما يترددا على الحديقة العامة ، كانت تتوخى المرور بقرب رشّاش المياه ، لأنه ببساطة يُذّكرها بالمطر



ما ألذَّ هذا الإحساس ! ، عندما أدِّسُ ساقيَّ المُنهكتين في اللحاف ، أشعرُ بالحرارة تسري إلى جسدي ، تسكنُ نفسي و أنا ألفُّ اللحاف حولي . أفرشُ شعري على الوسادة ، و أظلُّ محملقة ً قليلاً في السقف . و إن حالفني الحظ ، فإن النوم يغلبني و لا يدعني عزلاء بمواجهة خواطري ، مجردة ً من كل سلاح ٍ إلا الندم . و لما طرقتُ باب الطبيبة و شرحتُ لها عمّا آلتْ إليه حالتي النفسيّة . ألقتْ عليَّ محاضرة ً طويلة أسفرتْ إلى أنه لا يتوجب عليَّ النظر إلى الماضي و أن لا أستسلمَ للندم ، فالحياة كما تراءتْ لي في ابتسامة ٍ ارتسمتْ على شفتيّها لا زالتْ جميلة . لكن الماضي هو .. و هو الماضي .. آه يا ليتهُ يترك الماضي وحيداً و يأتيّ إليّ أنا الوحيدة ، فعندئذ ٍ أستجمعُ قواي و أصعدُ فوق جروحي لكي لا أندم . فهو معي ، لكنه لا يأتي .. لا يأتي 


أغمضتْ عينيّها مُطلقة ً تنهيدة صغيرة ، ثم رفعتْ كفّها من تحت اللحاف و مررّتهُ أمام عينيّها . كانت قد أصيبتْ برضّة أثناء سيرها في الشارع العمومي ، إذ سقطتْ لأن الشارع حينئذ ٍ كان مُبتلاً زَلِقاً ، و فردتيّ حذائها الجديد لم يفلحا في تفادي الوقوع . و هكذا تلّقتْ كفُّها اليمنى عاقبة اختلال توازنها و انكفاء جام الثِقل فوقها . فأحسّتْ وقتذاك بالدموع تصعدُ إلى حلقها ، لكن السماء بدتْ مُكفهرّة أكثر من أي وقت ٍ مضى ، و أوشكتْ أن تستغرقَ بالهطول . و هي تخافُ المطر ، فسحبتْ كفّها المتوجٍّعة و مضتْ مسرعة ً في الطريق 

لماذا استيقظُ الآن ؟ ، يخيّلُ لي أنها قرابة الثالثة صباحاً . أفّ .. إنه الأرق و هذا الرأس الذي لا يهدأ أبداً فالليلُ موعدُ مخاضه المعتاد ، تتوالدُ فيه الأحلام و يجتمعُ شملُ الشتات اليوميّ ، فينزلقُ الحلمُ بدائيّاً بِكراً لا يمسّهُ أحدٌ إلايّ .. و ياليتَهُ هو ، ذاك الخائن يرتدُ طاهراً كالحلم لم تمسسهُ أخرى ، مثلي و كالحلم . لكنني وحيدة .. وحيدة ، فهل الأحلامُ تكونُ وحيدة ؟


ميّزتْ مقاعداً و ركاباً ، فأيقنتْ لمّا خرجتْ من الحُلم أنها كانت داخل مركبة عموميّة و على الأرجح أنها حافلة . و الذي تذكرهُ أيضاً ، أن الجابي ذكرَ لها أن الأجرة ناقصة ، و لم يكن هنالك بُدّ من أن تمدَّ كفّها كرّة ً أخرى إلى محفظتها و تفتّشَ فيها عن قطعة نقود ٍ تاهتْ عنها أول الأمر . و عندما لم تجدّ احمرّتْ وجنتاها خجلاً و لم تدر ِ ماذا تقول . إلا أن كفّاً رجاليّة ارتفعتْ موفيّة ً باقي المبلغ ، حدستْ أنها تعرفها جيداً على الرغم من أنها لم تسمع صوت المنقِذ الشهم ، و لم يتسع وقتُها كي تلتفتْ لأنها سمعتْ زخّ المطر على الزجاج ، و انقطعَ الحُلم على مشهد الماء و هو يغسلُ النوافذ و العالم


كلما فكرتُ أنني كنتُ زوجة في بداية هذا العام و أصبحتُ مُطلّقة في نهايته ، راودتني غصّة و فقدتُ صوابي . مالذي حدثَ بالضبط ؟ ، لكأنهما زمانيّن منفصليّن لا يربطهما غيرُ أوراق رزنامة على الجِدار . و لم ينقض ِ وقتٌ طويل حتى سمعتُ عن نيّته بالزواج ، و أنه فتّش و دقّ أبواباً كثيرة إلى أن وقعَ اختياره و بعثَ لي دعوة الزفاف بغير خجل كأن بي صديقة قديمة له . و في فورة غضبي - و أنا الذي أمّلتُ أن يعود إلى البيت ، البيت الذي استأجرَ غيره و شطبَ عنوانه من دفتر ِ حاضره و لم تعدْ خطاهُ تدوّسُ عتبته - أرسلتُ إليه بباقي أغراضه و خاصّتِه . القدّاحة و القلم الحِبر ، زجاجة العِطر و البذلات التي لم يأخذها معه ، ساعة يد كان قد أهداها إليّ في عيد زواجنا الأول .. كل شيء ، سوى البيت الذي سُجِّلَ بإسمي فيما بعد . و إنني أسألُ نفسي مُلّحة مفتشّة ًفي داخلي مِراراً ، مُقلَّبة ً الخاطر تلو الخاطر ، و أنا أحتسي القهوة في الكافتيريا ، أو عندما يطالعني وجهُ زميل يلوحُ ملقيّاً عليّ تحية الصباح .. و أكبتُ الألم في سريرتي ممسكة ً بتلابيب الدمعة قبل أن تفلتَ و تهرب فوق خدي فاضحة ً حُزني أمام الآخرين . و ليس لي إلا أخٌ واحد بعد وفاة ِ الوالدين يكفيه ِ ما فيه ، تتنازعهُ مشاغل الأسرة ، و يركض ليل نهار و لا يلحق ركب الكفاية . 
و هكذا بقيتُ وحيدة 

دسّتْ رأسها في محاولة ٍ يائسة منها لنداء النوم ، و اقتفاء أثر ذلك الحُلم لو حالفها الحظّ . يا تُرى ؟ ، هل يكونُ هو الذي في الحلم ؟ ، ذلك المُنقِذ الشهم