Monday, August 26, 2013

المِلح – نصّ في فصول

 

 

 

سيُقال فيما بعد أن شاهر كان على صوابْ حينما زعقَ في وجه أكبر رأس تصدّرتْ عملية شراء أراضي الضيع المهددة بالغارات و الهجماتْ . لكن أحداً ممنْ اُعتبِروا من وجهاء البَلد و كباريتها تكلم . ظلّ الصمتْ سيد الموقف ، حتى عندما جاملَ البعض و فضَّل آخرون سلك مسلك المداهنة و المُهادنة .. كان موقف شاهر الغضب الشديد ، و قد قذفَ كل رأس بحجر حسب ادعاء الذين نافحوا عن أبو سالم ، الرجل الذي جاء في النهاية ليقشّ كل شيء ، الأراضي و السواقي و البهائم . لأن من المرجّح أن يقوم اليهود بالمباغتة في أي لحظة و لن يكون باستطاعة الرجال الصمود أكثر من ليال ٍ معدودات . هذا ما كان تُنذر به طلّة أبو سالم على عتبات المجالس و في كل مضافة كان ينزل بها لشرب القهوة و نفخ النركيلة .

 

سوى أن شاهر اقسمَ برحمة أمواته أن ذلك لن يصير ما دام الرجال فوق أراضيهم و بين جُدران أحواشهم . سيهرّبون السلاح بمعرفة بعض الثوّار من الضيع المجاورة ، و متى استقرّتْ البنادق بين أيديهم و كان بوسع واحدهم أن يُطلق ، فإن الأحرى بالرجال ثمتئذ ٍ أن يموتوا كي تعيشَ الأمهات و الأطفال بين أراضيهم و بيّاراتهم . و شاهر الذي لا يُحب الكلام كثيراً و لا المتحذلقين ذوي البذلات و الأحذية اللمّاعة ، بقي يحرث الأرض برجليه الضخمتين المُشققتين الحافيتين ، مكشوف الصدر و الظهر للهيب شمس العصر ، لا يكل عن دفع سنّ المحراث في ثُلم الأرض و شقّ بطنها بالمنجل الحديدي العريض ، أكان ذلك يتم بواسطة ثور أو بزنديه شديدتيّ السُمرة غزيرتيّ الشَعر .

 

تفاجأ الرجال بشاهر ، إذْ أنهم لم يعهدوا منه هذا المزاج و العَنترة . اعتادوا أن يبتوّا الأمور معه بكل تصافي و مودة و على بساط أحمديّ . و في حادثة جاره أكرم النادر أكبر مثال و شاهد على سِعة صدره و زنة عقله . إلا أن شاهر هذا المرة بدا كمن يحمل السُّلم بالعرض مُصرّاً أن القرية ستقف على قدميها أمام لسعة الخيزرانة الغريبة الغاشمة المتحيّنة . إنهم لن يذهبوا أبعدَ من قريتين من هنا و بحوزتهم بُقج و صرر خفيفة ، يوم يومين ثلاثة .. شهر إن طال اللجوء ، ثم الكرّ ثانية ً إلى البيوت . و السماور الساخن ، سينالهُ البرد قليلاً إلى أن يعودوا بالسلامة .

 

-        طيب فهمنا .. أجلَّ الله مقداركم .. و أبو سالم الزفتْ ما شأنه ؟

 

-        لا تقلْ زفتْ ! ، الرجل ما أخطأ بحق أحد يا شاهر ..

 

ردّ إسماعيل شُكري مستلماً دفة الكلام من شاهر الذي دخل المجلس  و هو في غاية الإضطراب و التكهرب . بعدها قام أبو إسماعيل برفع كأس الشاي الفارغ و الموضوع على طبليّة الخشب ، ثم قال ، و هو يُمسك الكأس عارضاً إياها أمام الجميع بين أصبعيه ، مُقِّلباً عينيه في الرجال :

 

-        أتصدقون يا ناس أن أبو سالم كان يدفع حق كاسة الشاي الذي يشربها في المضافة قبل أن يجلس .

 

و تناهى من الناس صوت الإندهاش و الإكبار .

 

هكذا كان . سلّم أناسٌ كثيرون أراضيهم لأبو سالم على سبّة الإيجار أو الرهن أو الوديعة . و هذا الأخير جعل يفرش الأوراق و الإثباتات التي تحمل بصمات الرجال و الأختام في كل محل ٍ تطأهُ قدماه و كل جمع ٍ يشهدهُ أهل القرية .

 

حاول شاهر مِراراً أن يضبط شعوره بالكره اتجاه أبو سالم و الذي أضحى يُسمى بالشيخ بين الناس . أول الأمر استقبلهُ تحت ظلّ تينة و شرعا يتكلمان في قضايا متنوعة تخص القرية و أحوال الناس و أخبار البلاد . و في المرات التالية لم يلمس شاهر في كلام أبو سالم ، الرجل المحنّك ابن السوق ، غير التلميحات و الحديث عن و ساطات و حالات مماثلة لأصحاب أراضي امتنعوا عن المشاركة في عملية التجميع و التحصيل . التزمَ شاهر الصمت فأقبضَ على انفعالاته و اندفاعه . و قبالته جلسَ أبو سالم بحطّته و عقاله يلفّ دخان الهيشة بيده المعروقة التالفة . كان على الأرجح بين الخمسين و الستين سنة ، في وجهه شامة و في مشيته عرجة واضحة . لا يُعرف بالضبط من أين جاء ، و لكنهُ اُستقبِلْ هنا كرجل محترم أو لنقل مُستثمِر ذو أعمال . شاهدهُ شاهر و هو يدوّر عمود السيجارة بين أصبعيه ، يلعق ثم يتفلْ .

 

لا بدّ أنهُ تذكّر الليراتْ و الدنانير ، حدسَ شاهر برأسه الفلاّح غزير الشعر و جبينه النّاز بالعرق أن هذا الرجل العجوز انتهى إلى نتيجة و خلاصة في الحياة مفادها أن الأشياء تتشابه في يد الشيّال ما دام قبض أجرته و نبضَ في عرق ظهره الحيل .

 

-        ها ! قل لي يا ولد العم ، كلامي عجبك أو لا ؟

 

-        أي كلام يا أبو سالم ؟

 

-        كلامنا المرة الماضية . باين أنك نسيتْ ؟

 

-        تكلمنا كثير كلام المرة الماضية يا أبو سالم . يا ليت توضّح و تحط أصبعك على الجرح .

 

- ماشي ، رح أكون صريح و مكشوف معك يا شاهر .. الأرض همّ البلاد يا ولدي . أنت سامع اللي يصير . اليهود أولاد الحرام ما خلوّا حجر على حجر و الخوف كل الخوف من التردد و التشتت .

 

- و المعنى ؟ ما فهمتْ ..

 

- لا ، أنت فهمتني مضبوط .

 

رفع السيجارة عالياً و نفضها بخفّة و زاد :

 

- أنت تهمني يا شاهر . الإنسان الذي لا يسلّم بسهولة هو الأحق بالإعتبار و الحسبان ، و الواحد في النهاية يكشف عن نفسه و يبزّ رأسه من رأيه و مواقفه . أنا ما نزلتْ من السما يا ولدي ، أنا مثلك فلاح ابن فلاح .. و إذا فكرك أني ما تعبتْ في حياتي ، فهاكْ .. اطلّع ..

 

شلحَ عن قدمه عارضاً لهُ التسلّخاتْ و الشقوق على حوافها و كعبها .

 

- بلا مؤاخذة . أنتَ شبّ و دمك فاير و ينقصك القلب الخبير المجرّب . الأرض يا شاهر مثلها مثل أي شيء ثاني في هذه الدنيا ، لكن الإنسان في نفسه غريزة التملّك و نزعة للبقاء ..

 

يعني اضرب لك مثل : بتقدر تحزر كم عدد الأراضي التي بعتها و اشتريتها ؟

 

قاطعهُ شاهر و قد نفد صبره ..

 

- مش رايد أعرف يا أبو سالم .. و بالمناسبة فنجان قهوتك بردَ على الطاولة .

 

- مقبولة منك .. فكّر بالكلام الذي قلته لك يا شاهر .. الأرض تروح و تجيء . تذكر أنكَ نزلتْ من بطن أمك عاري حافيّ .. ربك الذي يرزق و يعوّض .

 

- يمكن يا أبو سالم ، قلبي غشيم مثل قشرة البصلة .. و بيني و بينك ، أنت قلبك شاخ و يبس و صار يحتاج إلى تزييتْ . كلامك كله لا يعوّض لي شعوري بالفرح أمام الأرض لما تُبذر و تُفلح و تثمر . وقتْ ما ينوّر اللوز أو يعقد التين و العنب .

لما ضوّ الشمس يقشّر حبّات التفاح المعلّقة على الشجر ، لما تشتهي في نفسك و أنتَ واقف بعيد عن صف الزرع أنّك تركع على رجليك و تبوّس رجليها مثل لو أن أمك قاعدة مكانها على الأرض و بين التراب ماسكة بيّدها حصى و بتسبّح ..

و قامَ شاهر من ركنه و تحرّكَ مبتعداً ، و بإيقاعٍ مسرحيّ توقّفَ في الفراغ ، تحدّهُ السماءُ من الأعلى و تحاذيهِ أكوامُ التراب . رفعَ ساعديهِ على استقامةٍ واحدة بالتوازي مع رقبتهِ فيما كانَ ظهرهُ مشدوداً مُنتصبَ القامة تغسلهُ أشعة الشمس .

و فجأةً انحنى و أمسكَ بحجر ، فعلَ ذلك بسرعة ٍ و دون توقّع . فأربكَ أبو سالم الذي ظنّ أن شاهر سيضربهُ كشيطانٍ يُساوم على جنّة فيُعاقَبْ بالرَجم . لكن شاهر قطعَ حبل التوتّر بأن أرخى الحجر من يدهِ و جعلهُ يسقط .

و عادَ صوتُ شاهر يتردد و هو ذاهلٌ عمّا حوله حتى أبو سالم نفسه ..

- من ثلاثين سنة كانت الأرض قطعة كاملة مسجّلة بقوشان عيد إبراهيم أبو خضرا . رجلٌ معمِّر ليس لهُ أولاد ، لكن عنده دونمات شويّ و شويَّات ، البهائم تسرحُ فيها و تضيع . و جاءَ اليوم الذي أكلَ فيهِ أبي لقمتهُ من الرغيف الكبير . أبي فلاّح يا أبو سالم ، دفنتهُ بأصابعي في مَطرح بعيد عن مقعدك خطوتين أو ثلاث .

التفتَ أبو سالم خلفهُ و ضايقهُ الشعورُ بأنهُ طيلةَ ذلك الوقت ، كانَ يدوسُ على طينة إنسانٍ ميّتْ . و لم يجد ما يدل على قبرٍ أو شاهدة . لقد بدأتْ السخرية بشخصهِ و قلّة القيمة .

- صَدُفَ أن مرَّ تاجرٌ من القرية . أُصيبَ التاجر بمرضٍ و ارتاحَ في القرية ثم ليُكمِل مسيرهُ ز كان يشكو من صدره ، يكحُّ بحشرجةٍ هائلة و رأسهُ تغليّ نار . بعدها أحسَّ بثقلٍ في رجليه و جعلَ يبكي و ينوح . و في الليالي التالية ، التي باتَ خلالها في القرية ، صارَ يطلبُ أمهُ في كل حين و ظهرتْ عليهِ ، حسب قول الناس علامات الخَرف . كان ينزل في خان إيجار ، اشتكى النزلاء من الوضع .. قالوا أن ذلك لا يجوز ، فذهبَ أبي الذي سمع القصة لا أدري من أين و أحضرَ الرجل و دلّكَ جسمهُ كُله بالزيت المغليّ . قلبهُ أول الأمر على ظهرهِ فوق الفَرشة ، ثم عصرَ معدتهُ و أحشائه بقبضتيْه . كل ذلك حدثَ أمام أعيننا أنا و إخوتي . راقبنا الرجل و هو يئِّن ثم و هو يتقيّأ . عيناهُ الحمراوان و الزَبد الذي في فيهِ لا تزالُ ماثلةً في الذاكرة .

و في اليوم الثالث من إقامتهِ في بيتنا شُفيَ التاجر . و نظير جميل أبي ، اشترى لهُ التاجر نصيباً من الأرض . دامَ الأمرُ دقائقاً معدودات حتى استلمَ الأرض و صارتْ مُلكه ، تَعِبَ و شقى و استنزفَ نَفسهُ لأجلِها ثلاثينَ عاماً بطولها . تلكَ الثلاثين سنة نَفسها التي قَدِمتَ تساومني عليها الآن ..